دول العالم اليوم، إن لم تكن تعيش في أجواء الحروب، فهي تعيش أجواء الخوف والرّعب، لأنّ العالم يتغير بسرعة، واليقينيات التي تأسست عليها الدول قد بدأت تتآكل وتنتهي صلاحيتها، ومن ذلك مفهوم الدولة، الذي تشكل في أذهاننا في الماضي، حيث بدأ يطرأ عليه التغيير والتبديل، وفي كل مرة، نجد الدولة تحاول أن تتخلى عن بعض واجباتها، وتُخِل ببعض بنود العقد الذي يربطها بالمواطن، والذي يحدد واجبات وحقوق كل طرف، ومن سمات هذا العقد، كما يقول علماء الفكر السياسي، أنّ الإنسان يتنازل عن بعض حريته من أجل أن توفر له الدولة الأمن، فالأمن من خلال هذا العقد المبرم، تحصيل حاصل وهو الأصل، لأنّ الدولة قايضت حرية النّاس بالأمن الذي توفره، وتسعى إلى تحقيقه بكافة السُبل والوسائل، لكن ما حدث مع مرور الوقت، هو أنّ الخوف أصبح السِّمة الغالبة في حياة النّاس، وصار ركناً أصيلاً تقوم عليه الدولة، وتستقر عليه.
لقد تجاوزت البشرية حالة الطبيعة الأولى، "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"
و"حرب الكل ضد الكل"، كما صورها الفيلسوف البريطاني توماس هوبز، بأن أسست هذا الكيان الذي يسمّى الدولة، حيث يتنازل النّاس عن حريتهم وحقوقهم المطلقة لصالح الدولة مقابل أن توفر لهم الأمن، ومع مرور الزمن، تطورت الدولة من دولة الأمن إلى دولة القانون والحقوق، واليوم يتم التّضحية بكل هذه المكاسب من أجل أن يعود الإنسان إلى المرحلة التي يعيش فيها إما حالة حرب، وإما حالة خوف، وكلتا الحالتين يمكن تصنيفها في المرحلة الأولى حيث البقاء للأقوى.
1- دول الحرب:
المنطقة التي تعيش أجواء الحرب دون منازع هي منطقة الشرق الأوسط، فقد دخلت دوله، خاصة بعد الربيع العربي، في أجواء مشحونة، وفوضى مدمرة، أتت على الأخضر واليابس.
فسوريا، نتيجة تعنّت رئيسها، دخلت إلى مستنقع عنيف، أدى إلى حرب أهلية وفتن طائفية (السنة، الشيعة)، واحتلالات خارجية من طرف دول (إيران، روسيا)، أو من طرف ميليشيات طائفية (حزب الله، كتائب عصائب الحق، داعش)، وأدى، كذلك، إلى تشريد شعب وتجويعه، وتدمير وطن وتفكيكه.
غير بعيد من سوريا، تستوقفنا خريطة دم أخرى، تشترك مع الأولى في الدين واللغة والتاريخ والمصير المشترك، الخريطة هي اليمن، فهناك صراع أيضاً على السلطة، أدى إلى تدمير الدولة وتفكيك نسيجها الاجتماعي، في خضم هذا الوضع، تدخلت العديد من الأطراف على خط هذه المواجهة، البعض يدّعي حماية الشّرعية التي أفرزتها الإرادة الشعبية بعد ثورة واعدة، والبعض الأخر يُصرُّ على أنّه يدافع عن شرعية التصحيح الثّوري، كل ذلك أدى، في الأخير، إلى تدخلات خارجية
(إيران، السعودية..)، وصراعات طائفية.
ليبيا هي الأخرى تعيش نفس الأجواء، صراعات ميليشياوية مدعومة من طرف قوّى إقليمية وغربية، وحرب بالوكالة وقودها أرواح الشعب الليبي، الهدف الرئيسي منها هو الاستيلاء على السلطة، ووضع اليد على الثروة النفطية.
هذا، وقد توقعت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، اندلاع عشر حروب ساخنة في مناطق مختلفة من العالم في العام الجديد 2016.
وبحسب هذا التقرير، فإنّ تركيا ستدخل كبلد جديد ضمن قائمة البلدان، التي يُتوقع نشوب حروب فيها في القريب إثر النِّزاع القائم بين الحكومة التّركية وحزب العمال الكردستاني، الذي يتلقى دعماً من روسيا مؤخراً.
وتضيف "فورين بوليسي" أنّ هناك حرباً متوقعة بين المملكة العربية السعودية
وإيران، على خلفية إعدام المرجع الشيعي الشيخ "نمر باقر النمر"، وبسبب الخلاف الحاد بشأن الملفات السّاخنة في المنطقة، وبالأخص، الملف السوري واليمني والبحريني.
كما أضافت المجلة إلى القائمة دولة بوروندي، ومنطقة بحر الصين الجنوبي، المتنازع عليها بين بكين وواشنطن.
ما يلاحظ على هذه الحروب أن معظمها في منطقة الشرق الأوسط، حيث تلتقي مراراتُ التاريخ ضروراتِ الجغرافيا، فيُستدعى الدّين والعرق والطائفة في تأسيس الولاءات وإنشاء التكتلات، مما يثير صدامات طائفية أو عرقية في العديد من البلدان.
ومن ثم، فالحرب هي العنوان الأبرز في المنطقة في الفترة المقبلة، والسّلام ما زال بعيداً، وللأسف، مع كلِّ يوم يمر تغرق شعوب المنطقة أكثر في وحل الصراعات والاختلافات.
2- دول الخوف:
لم يعد الغرب "الفردوس الأرضي" الذي تحظى شعوبه بالحرية واحترام الحقوق والمساواة، كما يرافع بذلك أنصاره ومريدوه، لأنّ هناك جديداً تحت الشّمس بدأ يتشكّل، وأصبح يؤرّق السّاسة وصناع القرار في الغرب، ذلك أنّ الحرية الممنوحة للشّعوب الغربية أكسبتها المقدرة والرغبة في التفكير في الأمور بعيداً عن السّياق المرسوم لها من طرف الأقلية المتحكمة في المال والقرار السياسي، حيث نشأت شكوكٌ حول السلطة، وتغير الموقف تُجاه العديد من القضايا.
ومن ثمّ، فالمعارضة في الداخل الغربي التي بدأت تتشكل وتزيد قوتها تُجاه السياسات التي تنتهجها الحكومات في معالجة القضايا الخاصة، من شأنها، إن استمرت أن تؤدي إلى هدم السّياق المعتاد، وإلى التّشكيك في الأساطير المألوفة.
وحتى يبقى السّياقُ فاعلاً، والأساطير تحظى بالاحترام والتقدير، لا بد من إعادة الشّعوب إلى بيت الطاعة، وذلك بإشاعة الخوف والرّعب في أوساطها من خلال:
– استدعاء الغرب، في كل مرة، للتهديد الذي يمثله الإسلام على حضارته وقيمه.
– عدو خارجي يشكل خطراً على قيم الغرب ومبادئه، ويريد أن يفسد حياة الغربيين، ويسعى إلى إعادتهم إلى قرون الظّلام والاقتتال الديني.
– تأجيج مشاعر العداء والعنصرية تُجاه المكونات الداخلية كالمسلمين، أو الخارجية كالمهاجرين، والتسويق بأنّها تمتلك عادات وتقاليد خاصة كانت سبباً في أنّ هذه المكونات لم تستطع أن تندمج في المجتمع الغربي الرّحب، وهي تريد بهذا التميز أن تفرض قيمها وعاداتها على الأغلبية بأي ثمن.
وبالتّالي، فالخوف هو سياسة لإعادة المارد إلى قمقمه، وعندما تُشيع الخوف، فإن أقصى ما يطلبه المواطن بعد ذلك هو الأمن، ولكي لا يفكر في شيء آخر، لا بد أن يبقى الخوف ملازماً له في كل حين، ولن يحدث هذا التلازم، إلا إذا تماهى الإرهاب مع دولة الأمن، فتنشأ دولة الخوف. في هذا السّياق يحلل الفيلسوف الإيطالي
"جورجيو أغامبين" في مقاله المنشور مؤخراً في جريدة لوموند الفرنسية العلاقة الجدلية القائمة بين الخوف والدولة المعاصرة، وحاجة هذه الأخيرة إلى الخوف حتى ترسي مشروعيتها على أسس متينة وأركان قوية حيث يقول: "إذا كانت الدولة تحتاج إلى الخوف لترسي مشروعيتها على ركن قوي، عليها في هذه الحال (إنتاج) الرّعب أو تركه ينتشر من غير معوّق، وترى الدول وهي تنتهج سياسة خارجية تغذّي الإرهاب الذي تجب محاربته في الداخل، والمحافظة على علاقات ودية بدول تمول منظمات إرهابية، كما يعلم القاصي والداني".
قد يجادل البعض، ويرى في هذا التحليل تجنّياً على الدول وحكوماتها، وبالأخص الحكومات الغربية، التي تقوم بكل ما في وسعها من أجل تكريس دولة الحق والقانون، وتعمل على حماية مواطنيها من الأخطار المحدقة، بإشاعة الطمأنينة والأمان، وذلك بفرض قوانين طارئة، واتخاذ تدابير للرقابة أكثر صرامة ومفعولية.
أساساً، إن المشكلة لا تكمن هنا، لأنّ الدولة من حقها أن تبتدع طرقاً ووسائلَ لحماية مواطنيها من أي تهديد طارئ أو خطر محدق، بل هذا واجبها تُجاههم، وإلا فقد أخلت بالعقد، ولكن، عندما يصبح التهديد قائماً في كل وقت، والخطر دائماً، وعندما يستبدل الأمن بالخوف، ويصير ركناً أصيلاً متماهياً مع كيان الدولة، وحالة ملازمة لحياة النّاس، لا بد أن يقبلوها، وأن يتكيفوا معها، وفي مقابل ذلك، تكتفي الدولة بإدارة الخوف لا إنهائه أو القضاء عليه، فهنا تُرسم العديد من علامات الاستفهام.
في الأخير، إن الدولة لما عجزت عن تحقيق "مجتمعات الضبط" على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، انتقلت إلى مرحلة أخرى، تتمثل في انتهاج سياسة التخويف من خلال آليات الرقابة والوقاية وإجراءات الطوارئ، وكذا بخلق عدو خارجي، دوره محدد في رفع درجات الرّعب، ووظيفة الدولة، في الأخير، تقتصر على كيفية إدارة هذا الخوف لا الخروج الآمن منه، وبذلك يتحقق الهدف النّهائي الذي ترمي إلى تحقيقه دولة الخوف، فمن مصلحتها كما يقول أغامبيو:
"أن يبقى المواطنون في حيرة من أمر ما يهددهم، والحيرة والرّعب توأمان، ويسود لدى أهل السياسة إلقاء الكلام على عواهنه، فهم يتكلمون عن حال حرب على عدو ينبغي أن يبقى مبهماً في عهد دولة (الخوف)".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.