لو لم يأتي البرادعي إلى هذا البلد ربما كان "جمال مبارك" الأن يجهز للحملة الإنتخابية لفترة ولايته الثانية في حكم مصر، فهذا الشعب من دون شبابه يبدو وكأن الثورة جاءت عكس إرادته.
البرادعي ٢٠٠٩
"الرجل السبعيني" عاد وحده ذات مرة مثلما كان وحده يسافر ويعود.. لكن تلك المرة كانت لها طابع أخر حول مجال من الشباب يتسعون كل يوم على إيقاع الأمل، والأمل وحده الذى أعاد البرادعي إلى مصر .. عاد ليجد المشهد الغريب عن مصر وقتها في صالة الوصول، الشباب في إنتظاره، والأمل في حقيبة سفرة الممتلئة بالضمير ..
عاد البرادعي ليخوض المعركة على طريقته والجماهير الرمزية التى استقبلته كانت من بينها نوعية أخرى من "رجل الشارع" لكنها على العكس كانت تريد "الدكتور" بديلا لمبارك، بين الذين لا يرون بديلا لمبارك والذين يبحثون عن بديل "أى بديل" للرئيس.
كان يتجلى الفارق الذى يمثله دخول البرادعى ملعب الصراع السياسى فى بلد مثل مصر، وفى لحظة "كانت وقتها" انتقالية تصيب الجميع بالانفعال.. رجل الشارع كان يبحث عن الأقدار، تربى على الإدمان. الحكام بالنسبة إليه هم أصحاب البلد وملاكه. هو ضيف أو موظف فى جيوشهم. الحاكم نصف إله، ولا حول ولا قوة للمجتمع إلا بما يمنحه هو من أدوار ووظائف وهبات وعطايا.. عودته كانت قبلة حياة لمستقبل كاد يشبه الماضى القريب .. تقويم صناعة التغيير ارتبط باسمه وبظهوره الذى صار.. معه ما كان أملا ممكنا وما كان مستحيلاً واقعياً..
مضى البرادعي فى هذه المساحة كومضة برق أضاءت حولها، فانكشف أمامنا واقعا ربما كنا نراه من بعيد دون أن ندرك تفاصيله، أشياء تشبه السياسة لكنها ليست سياسة، وأحزاب تشبه الأحزاب لكنها ليست أحزابا، ومعارضة تشبه المعارضة لكنها ليست معارضة، وحراك يشبه الحراك لكنه ليس حراكا.
البرادعي ٢٠١١
"النجم الساطع" استطاع أن يغير وجهة نظر المصريين في مصر .. فبعد أن كانت تنظر لها كالأم العجوز التي لا حول لها ولا قوة تجاه أبنائها أصبح النظر إليها كطفلة صغيرة يبحث لها أهلها عن مستقبل مشرق يقف الدكتاتور حائلاً بينها وبينه .. ومن هنا كان التأثير الأقوى للبرادعي على مصر.. فما أصر عليه إستطاع أن يحققه في الوقت الذي أراده.
"مليون مصري في الشارع" هذا كان الحلم الذي لم يراه أحد سوى البرادعي وكان بالنسبة للمصريين بما فيهم الشباب هو الخيال بعينه، كيف نرى مليون متظاهراً في الشارع بعد أن كنا نشعر بالقوة عندما يمتلأ سلم نقابة الصحفيين بالمتظاهرين؟ .. إستطاع هو أي يرينا الخيال واقعاً وحلمه أصبح واقعاً في ٢٥ يناير التي هي صنيعته وكان الأحق بقياداتها ودخل لعبة الإنتخابات المشبوهة .. إلى أنه أعلن خروجه من لعبة الرئاسة .. إحتراماً لمبادئ لم تكن متاحة عند كثيراً من الساسة .. الخروج من اللعبة لم يكن بحسابات سياسية ولكنه بروح "غاندى" الراغبة فى معاندة المزاج السياسى لا خوض المنافسات بقوانينه، وهو ما يمثل ضربة مزدوجة لكل من اعتبر البرادعى رمز الليبرالية فى مواجهة رموز سلفية وإخوانية، أو من تعامل على أنه "زعيم سياسى" يمكنه أن يخوض حربا فى بيئة سياسية غير صالحة.
البرادعي ٢٠١٢
"المعارض الأشهر" في العالم استطاع جمع شتات الفرقاء من المعارضة في "جبهة الإنقاذ الوطني" التي إستمرت إلى أن عزلت مرسي في ٣٠ يونيو وكان إنشائها في الأساس ضد الإعلان الدستوري لمرسي في أواخر نوفمبر الماضي وضد الدستور الذي أصدرته جماعة الإخوان حالمين أن يكونوا "الأمر الواقع" لهذا البلد، ويَرِثون مكانا يستطيعون به إعادة تفصيل الدولة على مقاسه.. متصورين أن كتالوج هذا التفصيل هو الدستور الذي إنفردوا به منذ استفتاء ١٩ مارس حين جهزت عقلية التحايل الإخوانية أفخاخا لمصر كلها بترتيب خطة إستولوا فيها على مفاتيح كتابة الدستور، ولو أدخلوا البلد كله من متاهة إلى متاهة، ومن توريط للعسكر إلى دفعهم خارج المشهد.. ثم إلى الصدام وتدمير مؤسسات الدولة.
كان الشباب يطير سعادة عندما يحول موقف البرادعي المستحيل الى شيء عادي، تتحول نقاشات مواقع التواصل الإجتماعي الى تراتيل فتنة، ويبدو الرجل العجوز بالقوة الساحرة المنطلقة من نقاء الضمير.. رسول ثورة لا يمكن تفاديها لحظة غضب النظام عليه .. فهو حالة فريدة من رجال السياسة لا تتحمل توافقات مصر في عصر قام كله على تقديس المتوسط. الوسط له قيمة وتقدير، والنجاح للمتوسط والأقل كفاءة، لا إبداعات خارقة، ولا خروج عن حدود يرسمها متوسط الفكر. أنبياء عصر مرسي ونجومه، والقادرون على صنع سبيكة تجعل الطيران تحت الرادار ممكناً كل هذه الأيام الطويلة الماضية.
لن يتفق المصريون على واحد من هؤلاء الذين خاضوا مسرحية إنتخابات الرئاسة سواء كان بسبب عقيدته السياسية أو تصرفاته الساذجة بعد خسارته، وللأسف لم تفرز الفترة السيئة الماضية شخصيات جديدة تكون جديرة بحق عن قيادة الموجة الثانية من الثورة التي فشلت موجتها الأولى في تحقيق باقي أهدافها بسبب إنعدام القيادة ولا يوجد هناك سبب أخر لفشلها سوى هذا.
البرادعي ٣٠ يونيو ٢٠١٣
لم يكن أمام الشباب في ٣٠ يونيو سوى تفويض الرجل الذي كان صاحب فكرة الثورة ليقود الموجة الثانية لها وليس أحداً سواه.. فهوى الذي يحترموه المعارضين يخشوه الإخوان ويهابونه الفلول الذين لن يستطيعوا أن يقفزوا في وجوده.. فهوا ليس من هؤلاء الخائنين لشعوبهم ولا من أولئك المتفاوضين على مبادئهم.. فاستطاع أن يضع خطة الطريق التي يريد أن ينقذ بها ما تبقى من ثورة 25 يناير ويضع المسار الصحيح نحو تحول ديمقراطي حقيقي .. فكان هدفه الأسمى هو عقد مصالحة وطنية مع الجميع فلولاً وإخواناً عن طريق العدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية التي طالب بها مراراً منذ ثورة "٢٥ يناير" ثم إستحدث بعد "٣٠ يونيو" وزارة للعدالة الإنتقالية لتنفذ المشروع المتميز للمصالحة الوطنية من دون التعدي على القانون، لإيمانه بأن الدولة لن تستقيم إلى عندما تنتهي العداءات التي إستطاع مرسي وإخوانه في عام واحد أن يجعلها هي السمة الوحيدة لهذا البلد.
البرادعي ٩ يوليو ٢٠١٣
محمد البرادعي" كان وجوده داخل قصر الرئاسة هو ما جعل الجميع من خلال التوجهات العامة والميول الشخصية لرجال نظام ما بعد "٣٠ يونيو" أنهم ينتوون أن يبيدوا كل خطايا الأنظمة العفنة السابقة من دون إقصاء أو إنتقام سواء من النظام الإخواني السابق أو النظام المباركي الأسبق.. مستعينا بالكفاءات والعقلاء في هذا البلد حتى "وإن كانوا خصوماً سياسيين لهم بشكل حضاري" وفي تثبيت مباديء وقوانين وممارسات حكم يقوم على أسس ديمقراطية تكون العدالة الإنتقالية والمصالحة الوطنية هي الأساس التي يضمن بناء دولة قوية متماسكة يستحيل هدمها ببساطة..
فالبرادعي يرى كما يرى شباب الثورة.. أن العواطف والمشاعر بعد ٣٠ يونيو في مصر مختلطة، فهناك الكثير من التعاطف مع الرئيس المعزول "محمد مرسي" وأيضا المزيد من الغضب، ولكن نحاول تعلم قبول وجهات النظر المختلفة، وهذا هو السبيل لتحقيق الاستقرار، وما يجب علينا الآن التأكيد علي وقف العنف ونبذه من جميع الأطراف .. وأن ضرورة الحوار مع جماعة الإخوان المسلمين ومحاولة إقناعهم بأن "محمد مرسي" فشل في إدارة البلاد لا يعني أننا سنقصي جماعة الإخوان من المشهد السياسي، ولكن ينبغي الاستمرار لتكون جزءا من العملية الديمقراطية وأن تشارك في صياغة الدستور وكذلك الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
البرادعي ١٤ أغسطس ٢٠١٣
توصل البرادعي إلى اتفاق المصالحة التي كان مفترض تنفيذه بين الدولة "حكومة وجيش" وبين قيادات جماعة الإخوان المسلمين ومؤيدي "محمد مرسي" من قبل تيرات الإسلام السياسي وبعض من المصريين البسطاء الذين يؤمنون بعودة الشرعية للرئيس المعزول وقرروا الإعتصام في ميدان "رابعة العدوية" من أجل الدفاع عن ما يؤمنون به، حتى وإن كان هذا يتعارض مع إرادة الأغلبية من الشعب المصري، على أن تتولى هذه القيادات فض إعتصامهم بأنفسهم أو تتم عملية الفض بطريقة سلمية من قبل الشرطة مقابل الإفراج عن بعض من قيادات مكتب الإرشاد وعدم ملاحقة أحد ممن هم في الإعتصام قضائياً وأن لا يتم حل الجماعة ولا الحزب وبعض من الأمور الإجرائية .. حفاظاً على أرواح البسطاء وإنقاذ مصر من بحيرة الدم التي كانت متوقعة .. إلا أن شيئاً ما تم الإتفاق عليه في الخفاء بين وزير الدفاع ووزير الداخلية في تنفيذ حولها إلى واقع مرير ومرعب عاشته مصر وكأنما لم تعيشه من قبل ولن تتعافى مصر من تلك المصيبة بسهولة.
"الرجل النبيل" شعر بأنه قد خُدع من زملائه في السلطة ونفذوا هذا المخطط الذي لا يتسم مع مبادئه التي عاش وسوف يعيش في سبيلها .. فما كان منه سوى الإستقالة فهو لا يستطيع تحمل في رقبته أمام الله وأمام ضميره كل هذه الدماء التي سالت والتي لن يستفيد منها سوى أصحاب الفكر المتطرف من دعاة العنف والإرهاب .. وبعد فترة لن تكون أبداً بالقصيرة سيخضع الجميع للمصالحة لا محالة.. ولو أن أحدا سواه في هذا الموقف لكان سيستفيد به في الدنيا ويسبح مع التيار الغالب الذي كان يريد سحق هؤلاء جميعاً .. ورفع على الأعناق.
هذا هو البرادعي بكل ما يمثله من مباديء وأخلاق نبيلة قلما تتوافر في شخصية بهذا الحجم .. هذا هو البرادعي بما يمثله قوة أمام الظالم وضعف أمام المظلوم .. هذا هو البرادعي الذي حتماً سيندم الجميع كالعادة على عدم الإنصات وتنفيذ أفكاره التي دائماً ما كنا نكتشف أنها كانت الأمثل .. لكن بعد فوات الأوان.
رحل البرادعي عن مصر في أمان بعد تيقن أن مصر الأن غير قادره لإستيعاب كل من هو برادعي.
النخبة المصرية ٢٠٠٩ – ٢٠١٣
وأقصد بالنخبة هنا هم هؤلاء الذين لم يكونوا جزءاً من نظام مبارك أو نظام مرسي، هؤلاء الذين كما نتوسم فيهم خيرا في جميع المستويات الإعلامية الثقافية والفنية والإقتصادية والسياسية.. ففي تلك الفترة كانوا دائماً ما يتسابقون جميعاً نحو حجز مقعد دائم في حديقة منزل البرادعي، قبل ٢٥ يناير يلتقطون صوراً تذكارية معه ويخرجوا على الناس بمقالات رنانة في بعض الصحف المعارضة يتحدثون عن الرجل الأمل الذي جاء لينقذ مصر من عصابة مبارك.. وبعد الثورة يرجونه الترشح لرئاسة الجمهورية وقبل الترشح ثم انسحب لأنه فهم ما يحاك بين المجلس العسكري والإخوان.
ظلت العلاقة كما هي بينه وبينهم حتى استدعوه للقيام بدوره مرة أخرى في قيادتهم بعد الإعلان الدستوري للخلاص من النظام.. نظام الإخوان وعادوا للتسابق على الجلوس في الحديقة الشهيرة، وقادهم بعد أن شكل جبهة الإنقاذ والتي كانت المتحكمة فعلاً في كل من يعارض نظام إخوان المسلمين.. حتى ٣٠ يونيو.
طلبوا منه أن يكون جزءاً من السلطة التنفيذية بعد إعلان ٣ يوليو كي لا ينفلت الحكم وتتعسكر السلطة وتذهب إلى إتجاه جمهورية يوليو ١٩٥٢، فقبل على عكس إرادته.. وسعى كما ذكرت إلى أهم مسعى يمكن السعي إليه في مرحلة كهذه وهو فرض العدالة الإنتقالية مع الجميع، فهذه دائماً هي المرحلة الأولى في البدايات بعد الثورات.. ولكن!
النخبة المصرية ٢٠١٣ – ٢٠١٥
يبدو أن جمهورية يوليو ١٩٥٢ إستحسنتها النخبة التي كانت تسعى طوال تاريخها للحرية والليبرالية وسقطت في حب الرجل الذي سيكون شبيه جمال عبد الناصر، ففوضته في فعل ما يشاء بالوطن وكانت النتيجة مذبحة تاريخية لن تغفرها لنا الأجيال، لكن النخبة قبلتها وفوق ذلك أحبتها ودافعت عنها.. وألقت على الرجل الذي كان أيقونتهم إتهامات الخيانة؛ فقط لأنه رفضها وأدانها وترك القصر بسببها.. وظل الرجل على مدار عامين يلدغ نفسياً من أذاهم، فأينما ذُكر أسم البرادعي ذُكر الخائن ووقتما غٓرد البرادعي غَرد العميل.. ولم يدافع أحد عن البرادعي سوى البعض القليل من شباب النخبة التي كُوِّنت بعد ٢٥ يناير.. فهؤلاء الذين لم يتجاوز أعدادهم العشرة هم من أخذوا على عاتقهم حماية الرجل بأقلامهم من اللدغات السامة التي حاصرت الرجل لمدة عامين كاملين.
النخبة المصرية ٢٠١٦
من بين النخبة من كان طامعاً في مكان ما على يمين السلطة بعد انتخاب عبد الفتاح السيسي، وبالفعل حجز البعض مكانه، والبعض الأخر طُرد من نعيم الذي إشتم رائحته ولم يذقه وهؤلاء المطرودون صمتوا قليلاً ثم قرروا حجز مكان على يسار السلطة قبل أن يخرسوا كل شيء.. نعيم السلطة وثنايا المعارضة.. وهنا كان لزاماً عليهم الدفاع عن المعارض الأشهر لإثبات حضورهم عندما قررت الدولة رفع إسمه وصورته من بين الأربعة الحاصلين على أم الجوائز العالمية "نوبل" من كتاب التاريخ المدرسي… رغم أن تلك الحادثة لا تقترب بشاعتها قيد أنملة مما إقترفته تلك النخبة المدافعة في حق الرجل من جرائم.. وتلك هي الحقيقة التي لن ينساها البرادعي أبداً ولن ننساه معه.
في النهاية يجب أن يفهم الجميع أن الدكتور محمد البرادعي لم يعد يرى من كل هذا الوطن سوى فقرائه وشبابه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.