منذ إعلان انهيار اتحاد مالي بين مستعمرة السودان الفرنسي، ومستعمرة السنغال الفرنسي، وبعد استقلال السودان الفرنسي -الذي يضم أقاليم أزواد تحت حكم فرنسي- باسم جمهورية مالي، كان على الدولة المالية أن تكافح في وجه القضية الأزوادية التي ظلت مزلزلة لها في كافة جوانب حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى علاقاتها الدولية والدبلوماسية.
ورغم عدم التكافؤ في الفرص والحظوظ كان على طوارق أزواد خوض كفاح طويل ومرير، شكلوا فيه عديد الحركات القومية والوطنية تقدّمت منجزاتها بشوط أكبر عن مثيلاتها في المجتمعات الطوارقية الأخرى.
ومن ذلك نستكشف آليات العلاقات بين الطوارق في أزواد والأنظمة المتعاقبة منذ الاستعمار وخروج فرنسا إلى الوقت الحاضر وعودة فرنسا وتمركزها، اعتماداً على متابعات دقيقة لظهور الهوية القومية للطوارق "توماست"، وتشكل الهوية والقضية الوطنية الأزوادية "أزواد"، مع تناول لأهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولجية التي مروا بها خلال ما قارب ستة عقود.
بين "المسألة الطوارقية" و"القضية الأزوادية"
من المهم جدًّا قبل الشروع في التفاصيل، الاستفتاح بالثنائية التي ظلت مرتبطة ويعاد صياغاتها مع كل فترة من تجدد الصراع بين الأزواديين ودولة مالي، وهي الربط بين المسألة الطوارقية والقضية الأزوادية.
هذا الربط تم توظيفة وإثارته بغرض سياسي ولتحجيم القضية في مكون عرقي باعتبارهم أقلية، حيث تركّز الارتباط بتخويف الدول ذات السيادة التي تتقاسم أماكن انتشار الطوارق "ليبيا، الجزائر، النيجر، مالي، بوركينافاسو" من تمدد الأزواديين إلى تلك المناطق وضمها لهم أو التخوف من تصاعد مطالب سكان تلك المناطق. وهذا الإشكال أو التخوف ظلت تطرحه الدول الاقليمية، رغم مواقفها غير المنسجمة في الأصل.
ولكسر ذلك فإن المسألة الطوارقية تتجاوز أزواد، بكونها تخص الدول السبع ذات السيادة التي تتقاسم بلاد الطوارق، والارتباط الأساسي بين المسألة والقضية، هو أن الفاعل الرئيسي هو قبائل الطوارق التي ناضلت من أجل هوية قومية تجمعهم. أما قضية أزواد فهي تمثل مطالب شعب أزواد لاستقلال أراضيه عن إدارة حكم مالي. حيث تمثل أزواد وفق التقسيم ما بعد الاستعمار الجزء الشمالي الذي اصطلح على تسميته جيبيولتيكيا شمال مالي.
وعدم انسجام تلك الدول أبرز مشكلات وخلافات حول المصطلحات والتي تعكس المشاكل الأكبر المتعلقة بالهوية والسيادة، أهمها مصطلح الصحراء والطوارق والأقلية.
وما يتعلق بمخاوف الثورة والتمدد فالطوارق لم يرفعوا مطالب انفصالية إلا في أزواد "شمال مالي" وآير "شمال النيجر" بعكس ليبيا والجزائر -رغم سياسات التهميش لمناطقهم- ومطالب الطوارق في تلك الدول مثل مطالب بقية المكونات المتعلقة بالمساواة والكرامة، فالطوارق يعتبرون أنفسهم فيهما، جزءاً أساسيًّا، كافح وناضل من أجل تأسيس تلك الدول -التي تنكر لهم حكامها وأفسدوا بهم العلاقات مع مكونات دولهم.
أما طرح وجود الطوارق في دولة وكيان واحد يجمعهم "دولة قومية" لم يطرح بهذا الشكل لسبب عدم وجود حركة قومية للطوارق بمفهومها الحركي. في المقابل فإن فرنسا التي واجهوها وفي ظل فترة ما بعد الحروب العالمية كانت قد عينت وزيراً للصحراء لإدماج سلاطين الطوارق في "مشروع الصحراء المشتركة" التي تضم أراضيهم وتراجعت عنه فرنسا بعد تحالفات مع الحركة القومية في غرب إفريقيا ومع أطراف الحركات الوطنية التحررية في شمال إفريقيا، وبموجب تلك التحالفات مع فرنسا تم تقسيم أرض الطوارق على تلك الدول، حيث بدأ ظهور، مصطلح "البدو الرحل" للتعبير على أنهم شعوب غير قادرين على عملية تكوين الأمة بمفهومها الوطني وتلاه مصطلح "الأقلية" بعد انطلاق الثورات.
ويظهر في شعارات دول الاستقلال في الخمسينيات ولأسباب سياسية، اعتماد قادة حركاتهم في شمال وغرب إفريقيا خطاباً دعمته عصبة الأمم أن شعوب الصحراء ليسوا أمة واحدة، بل مجموعات إثنولغوية مختلفة، ومن ذلك برزت مسألة الهوية.
الطوارق.. مسألة هوية
لم يشرع الطوارق -إيمازيغ آن تينيري- إيمازغن- كال تماشق- بمختلف تلك التسميات لم يشرعوا في كتابة تاريخهم الخاص إلا في أواخر الخمسينيات، وعلى استحياء شديد أيضاً. وهو ما يدفع الباحثين والمهتمين بأحوالهم إلى العودة والاعتماد على مصادر لم يكتبوها عن أنفسهم، لتتبع الجذور التاريخية للطوارق، وهو ما يترك الأمر مثاراً للجدل.
حيث يعد الحديث عن أصول وتسمية الطوارق مثار جدل، حيث تعرضت هوية الطوارق لكثير من التغيير والتحريف ولم يسلموا من التشويه بشكل غريب جدًّا.
ولعل العامل الأهم وراء ذلك، هو افتقار هذا الشعب إلى حكومات جادة في بسط نفوذها على أرضهم لتقيم المؤسسات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تُعنى بتدوين الوثائق التاريخية وحفظها وتتيح لهم وللعالم معرفة أوسع لـ"كال تماشق" على حقيقتهم.
ومع تداخل معطيات ثقافية وسياسية بين شمال إفريقيا وغرب إفريقيا ظل الطوارق في دوامة رحى بين من ينظر إليهم نظرة عجائبية بكونهم مجرد ملاحق لأصول بشرية وحضارات أخرى من قارات أخرى، باعتبارهم بقايا الجيرمينت، أو باعتبارهم بقايا الكنعانيين، أو باعتبارهم عرباً مهاجرين.. حلّوا محل السكان المنقرضين أو بانتسابهم إلى صنهاجة، وبين من ينظر إليهم نظرة سياسية أحادية بكونهم مجرد متمردين "les rebelles" وبَدْوًا همجيين ولصوصاً ومرتزقة يهددون استقرار دول المنطقة.
ولم يعرف "الطوارق les touareg" أنفسهم بهذا الاسم إلا من خلال ما خلفه المستعمر الفرنسي الذي أظهر اسم "الطوراق" وفقا لقواعد لغتهم touareg/touaregs/touarègue في مذكرات ظباطه وجنوده، ومن تلك الكتابات كان يعني الفرنسيون بهذا الاسم سكان منطقة "الصحراء" أو صحارى SHARA وهي التسمية التي كانت تعرف بها ما يعرف اليوم بتسميته "الساحل والصحراء" أو الصحراء الكبرى le désert du Sahara .
وابتداء من أصل هذه التسمية "توارق le touareg" التي شاعت بُعيد الاستعمار الفرنسي فقد ظلت مثار اختلاف "بين أصحاب النظرة العجائبية والنظرة السياسية الأحادية "حيث توالى ظهور عشرات التأويلات في هذا الوصف من بينها: من يرجعه إلى انتسابهم للقائد الأمازيغي العسكري المسلم طارق بن زياد وجيشه الأشهر، وبين من يعيده إلى كونهم طرقوا الصحراء وتوغلوا فيها، وآخرين أرجعوا اسم التسمية إلى تأويل فعل "ترك" وانقسموا فيها أيضاً بين كونهم تركوا الإسلام و بين كونهم تركوا الوثنية، في حين أرجع البعض التسمية إلى اسم منطقة "تاركا TARGA" التي يعتقد أن قبائل منهم سكنتها.
وظلت هذه التسمية "les touareg" بترجماتها المحرفة والمعدلة هي الأكثر تداولاً، وظل الخلاف قائماً معها حول التسميات، وهو ما يعكس مشكلات الهوية.
وإجمالا في العصر الحديث، فإن طريقة التعبير الرسمية فيما يطلق عليه البلدان المضيفة التي يعيش فيها شعوب الطوارق تنأى عن استخدام التسميات التي يطلقهونها على أنفسهم، فالخطاب في الجزائر قدمهم بحسب الفترة بعدة مسميات "التوارف والتوارق والتوراك" وفي الخطاب الليبي بتسميتهم بالتوارق، فيما اعتادت الأنظمة المالية المتعاقبة استخدام مصطلح شمال مالي حول إقليم أزواد واسم "المتمردين التوارق les rebelles".
وهناك تسميات أخرى اشتهرت من قبل الرحالة والمستكشفين، منها تسمية "الملثمين" المتداولة في كتابات الرحالة ابن بطوطة وما نسب إلى ابن خلدون، ومنها تسمية أسياد الصحراء les seigneurs du désert وتسمية الرجال الزرق les hommes bleus المتداولة في كتابات المستكشفين الفرنسين منهم "هنري دوفرييه" و"شارل دو فوكو"، وتسمية البدو الرحل nomades، ولم تُخفِ هذه التسميات هي الأخرى تأثرها بخلفيات ثقافية تسعى للتدويل وفق سياقات ثقافية وسياسية محددة، وهو ما يظهر في الثقافة الفرنسية التي تعتمد كتاباتها على إظهارالطوارق كمتحف ثقافي بشري متحرك واختزال تاريخهم وكتاباتهم في مجرد الفلكلور الذي يصاحب هذه الثقافة بعيداً عن تحقيق الهوية الحقيقة والحرية الاستقلالية، وهو ما كافح شعوب الطوراق من أجله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.