شرق أوسط روسيا

قد يجادل البعض بأن محاولات التغلغل الصينية، الباكستانية، التركية، الإيرانية وغيرها، قد سهلها انشغال موسكو بنفسها في بداية تسعينيات القرن الماضي، ولكن ماذا عن التدخل والتواجد الأميركي برًّا وجوًّا منذ 2002 وحتى يومنا هذا بحجة الحرب على الإرهاب، في وقت كانت روسيا في أقوى حالاتها؟ وكما دخلتها الولايات المتحدة من البوابة الأمنية فقد دخلتها تركيا وإيران وباكستان من مدخل التراث الثقافي المشترك، ودخلتها الصين من منطلق اقتصادي وأيضاً بدافع تأمين حدودهما المشتركة

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/22 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/22 الساعة 03:43 بتوقيت غرينتش

ليس المقصود هو تنامي القوة والتواجد الروسي في منطقتنا العربية التي باتت منطقة مفتوحة ليس للتجارة والاقتصاد بل للحروب والنزاعات، المقصود قضية قلما تلفت أنظارنا إليها "المانشيتات" الصحفية. إنها تلك الوحدات الخمس التي رفعت أعلامها مستقلة مع سقوط الاتحاد السوفييتي، والتي يحلو للبعض تسميتها ب"آسيا العميقة" أو "آسيا الداخلية"، أو الوسطى كما هو شائع، بينما يسميها البعض الآخر "قلب أوراسيا".

ومهما اختلفت الأسماء تبقى هذه المنطقة الفناء الخلفي للدب الروسي الذي طالت مخالبه الشام.

تتكون هذه المنطقة من كازاخستان، طاجيكستان، أوزبكستان، تركمانستان وقرغيستان متربعة على 4003451 كيلومتراً مربعاً من الموارد الطبيعية ويقطنها أكثر من ستة وستين مليون إنسان (في عام 2012).

هؤلاء، رغم تنوعهم واختلافهم، يبقى ما يربطهم بجيرانهم شرقاً (الإيغور) وغرباً (إيران وتركيا) أعمق وأرسخ مما يربطهم بجيرانهم الشماليين، بل إن أوزبكستان وطاجيكستان كانا كياناً واحداً يعرف بتركستان. وقد حاول الشيوعيون، ومن سبقهم ومن تلاهم، سلخهم عن وثائق الإسلام حين تم -مثالا لا حصراً- منع طبع المصحف الشريف في 1934 وأغلقت 15000 مدرسة دينية في 1928.. حتى جاء عام 1985، وفي سائر المنطقة مدرسة إسلامية واحدة فقط لا غير.

من المفارقة أن هذه المنطقة وهي مسقط رأس مستكشفين دينيين، كالبخاري والترمذي وآخرين عسكريين كالتتار والسومونيين، أضحت مختبراً لتجارب الغير وعلى الأغلب الروس، إلا أن هذه المنطقة لطالما استقبلت -ولا تزال- أيَّ راعٍ، حيث انتقلت خلال أربع وسبعين سنة من طامحة وراغبة في الاستقلال إبان الثورة البلشفية إلى متمسكة أو متطلعة إلى أي كفيل أو وكيل أو شريك.

فقبل تفكك الاتحاد السوفييتي كانت الموازنات العامة لل"ستانات"* – ينتهى اسم كل دولة بلاحقة"ستان" التي تعني أرض أو مكان- الخمس كلها تعتمد ما بين خمسة وعشرين بالمئة إلى خمسة وأربعين بالمئة على المساعدات الروسية.

أما ما بعد التفكك، فلم تسع لملء جيوبها من خيراتها وتنمية قدراتها فقط، بل حتى لحجز مقعد لها في المسرح الدولي. فبعد أن اكتفت أمداً أن تكون شأناً محليًّا في الأجندة السوفييتية، ها هي اليوم تبعث من جديد وحيدة يتيمة تائهة تحمل بعض أوزار وجراحات حياتها السابقة.

قد يجادل البعض بأن محاولات التغلغل الصينية، الباكستانية، التركية، الإيرانية وغيرها، قد سهلها انشغال موسكو بنفسها في بداية تسعينيات القرن الماضي، ولكن ماذا عن التدخل والتواجد الأميركي برًّا وجوًّا منذ 2002 وحتى يومنا هذا بحجة الحرب على الإرهاب، في وقت كانت روسيا في أقوى حالاتها؟ وكما دخلتها الولايات المتحدة من البوابة الأمنية فقد دخلتها تركيا وإيران وباكستان من مدخل التراث الثقافي المشترك، ودخلتها الصين من منطلق اقتصادي وأيضاً بدافع تأمين حدودهما المشتركة، فكما بنت سورها العظيم سابقاً، خوفاً من الغزوات من هذه المنطقة، فإنها تتوجس من تواصل أقلياتها المسلمة مع جيرانها "الحديثين" المسلمين.

ليس الهدف التثقيف، إنما التنبيه إلى الكيفية التي لعب بها التاريخ دوراً على مسرح الجغرافيا، للفت نظر دول الخليج إلى ساحة مفتوحة ملأى بالفرص والمقومات، سبق أن كانت محرمة إلا على الروس منذ القرن التاسع على الأقل. فالستانات الخمس قد وعت بأن ترحيبها بأي أجنبي يذكي نار الغيرة لدى الروس، مما يجعلهم يوفون لهم الكيل. وفي ذات الوقت ساد في ذهن كل مشارك من الخارج بأن هذه المنطقة تأخذ أكثر مما تعطي مما أضعف التنافس عليها.

فهل هذا عمليٌّ بالنسبة لدولنا؟

أليست المصلحة الجيواستراتيجية أكثر إلحاحاً الآن وبالنسبة لنا أكثر من ما مضى وأكثر من غيرنا؟
ألا يجب علينا أن نرسل رسالة للروس بأننا قادرون على الوصول إليهم كما وصلوا إلينا؟
أقلها أو أكثرها أن نرد الجميل للبخاري والترمذي والنسائي فنؤدي حق الإخوة تجاه شعوب عصفت بها الشيوعية وممثلوها؟
ألا نعي بأن حروباً قادمة قد تثور على المياه، بينما طاجيكستان لوحدها فيها أكثر من تسعمائة نهر وأكثر من ألف وثلاثمائة بحيرة عدا المصادر المائية الأخرى؟
لم لا نتفاءل بأن تدفق تجاري قد يسهم بخلق طبقة متوسطة في تلك المجتمعات قادرة على أن تسهم بتسييل تخثر الأنظمة هنالك لما فيه خير الجميع؟

حفّزت لديّ كتابة هذه الكلمات قيام وزير الخارجية الأميركي مؤخراً بجولة في هذه المنطقة الغامضة ليطلق برنامج مساعدات جديد يشمل التبادل العلمي والثقافي، نشر تعليم وتعلم للغة الإنجليزية، التعاون في مجال المياه، دعم إضافي للجامعة الأميركية في آسيا الوسطى وغير ذلك.. مما أعقب حوالي تسعة مليارات دولار منحتها الولايات المتحدة للمنطقة وفيها منذ 1991. إضافة، فقد طالعنا معهد "كارنيجي" للسلام في أحدث تقرير له بنبوءة حول إضافة كرسي إيراني على طاولة آسيا الوسطى.

(كَلِمات أُخَر)
ما زالت هذه الدول تسعى لتكوين هوية جمعية ولترتيب بيتها الداخلي، بيت من سيساهم فيه، ولو بلبنة، فسيكتب اسمه في "الطابو"!

ملحوظة من المحرر: "الطابو" كلمة تعني "الوثيقة الوحيدة التي تؤكد على ملكية العقار في تركيا".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد