بوتين لا يفهمه احد لكنه يعرف كيف يلعب جيدا.

فصحة الاقتصاد الأميركي تعتمد على التصدير والاستفادة من السوق الاستهلاكية الهائلة في دول شرق آسيا. ناهيك عن الرغبة في كبح جماح التنين الصيني الراغب بقوة في أخذ قيادة دفة الاقتصاد العالمي من يد الولايات المتحدة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/19 الساعة 05:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/19 الساعة 05:00 بتوقيت غرينتش

بدون مقدمات ودون سابق إنذار، بوتين يعلن سحب الجزء الأكبر من قواته في سوريا.. فماذا حدث أو ما الذي لم يحدث لكي تنقلب الأمور بهذا الشكل الدرامي والمتسارع دون أن يتمكن أحد من فهم واستيعاب ماذا جرى بالضبط..
روسيا قد لا تكون انتصرت أو حققتْ أيًّا من أهدافها المعلنة من التدخل في سوريا، لكن هذا لا يعني كذلك أنها انهزمت، ما دام أن انسحابها جاء في فترة كان خصومها يراهنون على استمرارها، وهو ما يعني مرة أخرى أن بوتين ربح نقطاً إضافية في صراعه مع أعدائه ومنافسيه، ما دام أنه دخل الحرب في الوقت الذي أراد وخرج منها عندما راق له ذلك.
التأثير المباشر والظاهر للقرار هو أن الخناق سيضيق مرة أخرى على بشار الأسد وحليفته إيران بالتأكيد، خاصة بعد أن تنفس الصعداء بالتدخل الروسي المباشر والذي بفضله استرجع العديد من المناطق الإستراتيجية التي جعلته يتحدث ويملي شروط المنتصر مع الساعين للتفاوض على الحل للأزمة.
إلى الآن الوضع يظل ضبابيًّا، في انتظار ما ستكشفه باقي الأيام، فالجانب المعلن بفقط كان هو أن القوات أتمت مهمتها حسب ما جاء في بيان الرئاسة الروسي، لكن الجانب غير المعلن وهو الأهم، هو أن معارك ما وراء الكواليس قد تكون هي من حسمت مسار الحرب.
تكهنات كثيرة صاحبت الخطوة الروسية غير متوقعة بالتأكيد، حتى من الولايات المتحدة نفسها، حيث إن البيت الأبيض نفسه تفاجأ بالأمر ورفض التعليق عليه ريثما تتضح الأمور، لكن ما تكشفه عنه الكواليس بين الفينة والأخرى قد لا يخرج عن الاحتمالات الثلاث التالية:
– الاحتمال الأول: هو أن بوتين دخل الحرب في الأصل ليخرج منها بأقصى سرعة ممكنة، وبما يسمح بتوجيه أكثر من رسالة مباشرة إلى أكثر من طرف، خاصة الولايات المتحدة التي يرى فيها بوتين تحاول تجاوز دور بلاده، و ترغب في الحد من -طموحات القيصر- في لعب دور اللاعب المؤثر الثاني في مختلف الصراعات التي تنشب في العالم، فيما يعني أنها كانت حرب "استعراض للعضلات" أكثر مما هي حرب بهدف آخر.
وما يرجح الأمر أن روسيا دخلت الحرب وهي تعرف أكثر من غيرها أنها غير مؤهلة اقتصاديًّا لحرب طويلة الأمد في هذا الوقت بالذات، بحكم الظروف التي أملتها العقوبات الأميركية والأوروبية، جراء سياسيتها في أوكرانيا، ناهيك أن تدخلها تزامن مع انخفاض أسعار المحروقات -المورد الأساسي لخزينة البلاد- لأرقام قياسية وصلت إلى أزيد من 70%، وتكلفة عملياتها في سوريا تصل إلى 150 مليون دولار شهريًّا على أقل تقدير.
– الاحتمال الثاني: أن تكون خلافات روسيا وإيران تفاقمت بشكل كبير، ووصلت بالتالي إلى الباب المسدود، فبغض النظر عن النقطة المتعلقة بمستقبل الأسد والذي يشكل أولوية لإيران وقد لا يكون كذلك لروسيا، لكن يبقى التصور الجيوستراتيجي الروسي العام للملف، ليس هو بالطبع نفس التصور الإيراني.
فروسيا وفق منطق -التفكير البوتيني- لن تكون مرتاحة بالتأكيد أن تكون الخيار الثاني للأسد بعد إيران، فبوتين تحدى الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة ليبرهن على أن بلاده قوة عالمية ولا تزال مؤثرة بشكل كبير في مختلف النزاعات في العالم، بينما إيران لا تعدو أن تكون سوى قوة إقليمية، يعود الفضل الكبير لروسيا في مكانتها تلك، وبالتالي فمن الطبيعي أن يكون لروسيا موقف سياسي في سوريا مغاير للموقف الإيراني، فروسيا دولة عظمى وليست دولة إقليمية، وهي بلا شك ما زالت دولة ذات نفوذ عالمي، وهي تعلم أن اهتمامات إيران في التوسع يتعلّق بكونها دولة قومية لا تتعدّى بلوغ الريادة على المستوى الإقليمي.
– الاحتمال الثالث: والذي لا يمكن استبعاده أيضاً هو احتمال أن تكون هناك صفقة ‬غير معلنة أو اتفاق ينتج عنه توافق يؤدي في عناصره المختلفة على ما يضمن تحقيق مصالح الطرف الروسي في سوريا، ‬ومصالح الطرف الأميركي في العراق، ‬الذي تعاني السياسة الأميركية تجاهه بعض المعضلات والتحديات، ‬التي ربما يساعد في حلها صفقة روسية – ‬أمريكية، ‬تنضم إليها أطراف إقليمية مهمة في ذلك السياق.
بما يعني أن يكون المشروع الروسي في المنطقة هو بالأساس مشروع أميركي عبر تنصيبها كشرطي جديد للمنطقة بدلاً من القوى الإقليمية التقليدية المعروفة، والتي قد لا تكون أي منها مؤهلة عمليًّا من وجهة النظر الأميركية للعب الدور لاعتبارات عديدة، أهمها أن الشرطي الروسي قد يخفف كثيراً من الاحتقان المذهبي والطائفي في المنطقة ليس من خلال حل كل المشاكل بل من خلال تحويلها إلى نزاعات سياسية يمكن التوصل إلى حل لها بدل الصراعات الطائفية التي لا تنتهي أبداً.
وما يزكي هذا الطرح اعتبارات عديدة، من بينها أن إبقاء سوريا محميةً روسيةً قد لا يشكل كثيراً قلقاً لواشنطن، فهي أحسن حالاً من بقائها محمية إيرانية أو حتى تركية، لأسباب عدة، هو أن البقاء الروسي سيضمن إلى حد كبير أمن إسرائيل على جبهة الجولان، ما دام أن روسيا ستكون الضامن المثالي لإسرائيل للحيلولة دون وقوع مواجهة على تلك الجبهة، فالتوافق الروسي الأميركي يشرح الكثير من الخلافات العميقة بين تركيا وأميركا بشأن كيفية الحل السياسي في سوريا منها منع تركيا من إقامة منطقة عازلة أو دعم الثوار عسكريًّا بما يكفي لإسقاط الأسد..
فأميركا بأي حال من الأحوال ليست عاجزة عن خلع الأسد، لكنها ليست راغبة في القيام بدور القيادة، الأمور مثالية بالشكل الحالي بالنسبة لإسرائيل ما يعني تلقائيًّا لها كذلك أيضاً، فسوريا مجزأة حتى مع بقاء الأسد أحسن من سوريا موحدة حتى ولو ديمقراطيًّا، ما دامت إسرائيل تريد ذلك.
وطالما أن أميركا لم تمارس أي ضغوطات جدية على روسيا لوقف عدوانها ومجازرها، وهي قادرة على ذلك، فهذا يعني أنها راضية عما تقوم به إذا لم تكن هي من أعطتها الضوء الأخضر للقيام بهذه الحرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
المعطى الآخر في هذا السياق، هو أن الولايات المتحدة في إستراتيجيتها المستقبلية لا يشكل الشرق الأوسط أي أهمية كبيرة لها باستثناء ضمان أمن إسرائيل، إذ إن أنظارها متوجهة صوب شرق آسيا وبحر الصين، حيث الفرص الهائلة للاقتصاد الأميركي، وحيث يقطن نصف سكان العالم، مما سيوفر للولايات المتحدة فرصاً غير مسبوقة في الاستثمار والتجارة والصناعة والنمو الاقتصادي والوقوف على أحدث التقنيات الصناعية لا توفره أي منطقة أخرى في العالم.
فصحة الاقتصاد الأميركي تعتمد على التصدير والاستفادة من السوق الاستهلاكية الهائلة في دول شرق آسيا. ناهيك عن الرغبة في كبح جماح التنين الصيني الراغب بقوة في أخذ قيادة دفة الاقتصاد العالمي من يد الولايات المتحدة.
تبقى العناصر الثابتة من هذه التطورات، هو أن تدخل وانسحاب بوتين بهذا الشكل في الآن نفسه يحمل أكثر من دلالة ورسالة لأكثر من طرف، لعل أهمها هو حرصه على الظهور بمظهر الرجل المؤثر والمتحكم في العديد من القضايا التي تحكم عالم اليوم، وأن سياسة لي الذراع الغربية عبر العقوبات الاقتصادية لن تجدي نفعاً، وأن أي محاولة لتجاوز دورها الإقليمي والعالمي، لن يتأتَّى إلا وفق نصيبها من الصفقات.
العنصر الثابت الآخر من الذي ربما غير قابل للتغير هو أن العرب هم الوحيدون الذين لا يزالون يتعاملون بمنطق "الصداقة"، في قاموس العلاقات في عالم اليوم، رغم أن التجربة والتاريخ علَّماهم أكثر من مرة أن المصالح هي المعيار والأساس الوحيد لذلك، ويبقى كل التمني أن يكون انقلاب أوباما على العربية السعودية واتهامه لها بدعم الشر وتأجيج المنطقة، وكذلك انقلاب بوتين على إيران وتركها لمصيرها في سوريا، درساً بليغاً يغير تفكير الحكام العرب بشكل عام نحو التعويل على أنفسهم وبناء بلدانهم وأوطانهم ذاتيًّا بعيداً عن منطق الاحتماء والبحث في كل مرة عن "كفيل" أو"محرم" يوفر الحماية لهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد