ربما تفشل سُلطة لكنها لا تعدم شجاعة الاعتراف بالفشل، برغم نُدرة ذلك.. غير أنه إذ اختلط فشلها بالقمع وبالدماء فإن إقرارها بعدم القدرة على الاستمرار يكون محل شك..
فمع كل خطوة فشل تتذكر تلك السلطة ما ارتكبته من جرائم بحق الملايين من شعبها، وتمر أمام أعينها صور المحاسبة أو المحاكمة، بل وربما الانتقام الذي قد ينتظرها بمجرد إقرارها بالفشل أو إبداء استعدادها للرحيل.
بل إنها ربما تنظر لتسارع حالات الفشل بصورة إيجابية باعتبار أنه قد يسمح برهن بقاء الوطن باستمرارها في الحكم، بحيث يُصبح الإقدام على إقصائها مغامرة والإبقاء عليها كارثة فيظلّ الوطن مُعلقاً بين منزلتي الفشل والقمع.
ويدفع الفشل في إدارة الدولة السلطة القمعية إلى تغيير أولوياتها، فما تراه الشعوب كارثيًّا لا يُمثل بالنسبة لها سوى مشكلات جانبية لمشكلة أساسية، هي عدم استقرار سلطتها على الأرض، ووجود أصوات تعارضها في الداخل أو في الخارج أو صدور قرارات أو نشر مقالات تفضح جهلها وتشرح فشلها وتنشر قوائم ضحاياها.
وبينما تعجُّ فضاءات التواصل الاجتماعي والإعلام، بما في ذلك إعلام السُّلطة ذاتها، بأنباء عن كوارث يومية أو حتى على مدار الساعة بما يكفي لجعل قلوب ملايين المواطنين تخفق قلقاً على المستقبل القريب وعلى أوضاع الوطن في كل قطاع، فإن شاغل السلطة وهاجسها الأساسي يبقى هو ما يهدد استمرارها لا ما يهدد الوطن؛ وبالتالي لا يُصبح مُستغرباً أن يخرج وزير داخليتها ليدين حماس والإخوان بقتل النائب العام بغرض متابعة الترويج لصراع وهمي يستند لثنائية مقصودة (عسكر-إخوان) بينما يتهاوى الجنيه لأسفل سافلين وتنهار كل احتمالات التنمية ويتراجع منسوب بحيرة ناصر لمستوى الخطر.
إن إدراك ذلك الواقع ضروري لترشيد إدارة مقاومة هذه السلطة بما يضمن إنقاذ الوطن من بين أنيابها الناشبة في كامل جسد الدولة ويجعل البديل لها هو عملية إنقاذ ونجاح.
ولنبدأ بالإقرار بأن إنهاك الدولة وخلق حالة عداء بينها وبين الشعب، هو جزء من استراتيجية السلطة للاستمرار، فكل الدولة في مواجهة كل الشعب هو خيار معقول لأي سُلطة قمعية فاشلة، طالما لم تستطع -بسبب فشلها على الأقل- الإبقاء على جزء من الشعب مؤيداً لها.
كما أن إضعاف هياكل الدولة والتخلص من كافة المنافسين داخل مؤسساتها، حتى لو كان التنافس ليس على مستوى مجمل السلطة، وإنما في جزء منها، هو أيضاً وسيلة لتعظيم قوة السلطة في معركتها ضد تصاعد الغضب والاحتقان الشعبي. فلا يُمكن تحقيق معادلة كل الدولة في مواجهة كل الشعب إلا بتركيز كل السلطة وعملية اتخاذ القرار بل والتفكر والمبادرة، في يدٍ واحدة هي رأس السلطة.
وبالتالي فإن رهن بقاء الدولة باستمرار السلطة يكتمل في اللحظة التي تتوحد فيه السلطة مع مجمل بنيان الدولة بما يسمح للسلطة بابتلاع المؤسسات، وبما يُصدّر صورة واضحة أمام الشعب أن إسقاط السلطة سيعني زوال الدولة بالضرورة. وعندها تتوقع السلطة أن يُذعن الشعب لفشلها ويتغاضى عن قمعها ويسكت عن فشلها مقابل عدم المغامرة بضياع الدولة.
في هذا الإطار التراجيدي تصبح الأصوات المعارضة للانقلاب مفيدة للتأكيد على استراتيجية السلطة كلما دعت تلك الأصوات لإسقاط الدولة بغرض الوصول إلى إسقاط السلطة، ويُصبح البديل غائباً أو غوغائيًّا، أو بحده الأدنى ضبابي بما يمتنع معه الجمهور عن التحرك طلباً للتغير.
بالطبع لا يمكن بناء حكومة موازية بهدف تسلم السلطة والإشارة إليها باعتبارها بديلا للسلطة القائمة، وطرح برامج ورؤى اقتصادية للإنقاذ في مقابل جهل وغباء إدارة السلطة للحكم؛ فهذا التصور المُبسط لا يُمكن أن يُطرح إلا في حالة تنافس انتخابي شريف في أفق سياسي مفتوح؛ وليس في إطار معارضة شعبية لنظام قمعي بلا أفق سياسي ولا رؤية اقتصادية.
إنما يستند البديل إلى إنجاز إستراتيجية مناقضة تماماً لرؤية السلطة؛ فبينما تعتمد هي في إدارتها الفاشلة على تغييب الشعب، فإن البديل يجب أن يكون واضحاً بأنه يقوم على تحرير إرادة الشعب لتكون هي مصدر السلطة؛ ومن ثمّ يُصبح من السذاجة -إن لم يكن من سوء الظن- الاستهزاء بالشعب أو التقليل من قدرته أو وعيه أو الشماتة في يلحقه به من ظلم، فلغة الخطاب تلك لا تؤدي إلا لتكريس ما ترغب فيه السلطة من زرع روح العجز وعدم القدرة على التغيير في الضمير العام.
وبينما تعتمد السلطة معادلة كل الدولة ضد كل الشعب، فإنها تتغافل عن حقيقة أن مكونات الدولة تقوم على ملايين المواطنين، الذين ينتمون لنفس الشرائح الاجتماعية التي تُعاني قمع السلطة؛ وهو ما يمثل ميزة لمعارضي السلطة القمعية الفاشلة فيما لو تبنت رؤية واضحة تعتمد معادلة مختلفة تسمح بأن تكون الدولة والشعب في مواجهة السلطة، طالما أن الدولة ليست سوى مكون من مكونات الشعب.
ولخلق تمييز بين ما هو دولة، ملك للشعب، وما هو سُلطة يتبع النظام الدكتاتوري، يجب إعادة النظر في التدفق العشوائي للمعلومات الموجهة والمُسربة من أجهزة السلطة وأذرعها بغرض الخلط بين ما هو سُلطوي وما هو دولة. فاعتبار حماس عدواً والاستمرار في الترويج للثنائية المُغرضة (عسكر-إخوان) والحديث عن الجيش المصرائيلي، واختصار منظومة القضاء في عدد محدود مكنه مبارك من التموضوع أعلى السلم القضائي، أو الإحباط من مواقف بعض ممثلي النقابات المهنية والنظر إليها كتعبير عن موقف أبناء تلك المهنة أو غير ذلك من عمليات الخرط والخلط، لا يُمثل إلا أحد وسائل السلطة في بناء جدار بين الشعب وكل عناصر القوة التي يُمكن أن يُقاوم بها الاستبداد ويقوّم بها الفشل.
أخيراً، فإن الدفاع عن قيم التسامح والتواصل وقبول الآخر والإقرار بالخطأ والعفو عن خطأ الآخر، جدير بأن يواجه ما تُروج له السلطة بأن البديل يحمل معه روحاً انتقامية أو تناحراً بسبب الاختلافات.
تبدأ صناعة البديل من إدراك الواقع ثم إعادة بناء معاني المصطلحات وطريقة التخاطب ومن ثمّ تكوين رؤية عامة تستهدف استعادة الدولة وإنقاذ الوطن وتحرير إرادة الشعب يجب أن لا تتقاطع من رؤية السلطة لاستمرارها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.