التصريحات التي أدلى بها "بان كي مون" خلال زيارته ل"تندوف"، وإشارات التضامن التي بعثها لمستقبليه، كما أشارت إلى الانحياز الواضح والسافر لأطروحة "البوليساريو"، وعدم حيادية موقفه كأمين عام لأهم هيئة أممية في العالم، من المفروض أن تُعنى بقضايا السلم والأمن الدوليين، فإنها تؤشر أيضاً على محدودية هذه الهيئة في إيجاد حلول لكثير من النزاعات الدولية والإقليمية.
السيد "بان كي مون" الذي تدرج من منصب وزير خارجية كوريا الجنوبية، إلى منصب الأمين العام للأمم المتحدة، والذي استطاع أن يتحول في وقت وجيز وقياسي، وقبل رحيله بأشهر معدودة من رجل من المفروض أن يتحلّى بروح التوافق والحكمة والقدرة على إيجاد حلول لكثير من المشاكل الإقليمية، ومنها بالطبع النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، تحول إلى جزء من المشكل ومصدر تأجيج للصراع بالنظر إلى حساسية الملف وتعقيداته وتأثيره على السلم والأمن في غرب إفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط.
فالرجل الآسيوي معروف بنزعته البراغماتية، لكنه معروف أيضاً بسلبيته في التعاطي مع كثير من القضايا والنزاعات الإقليمية، التي أخذت أبعاداً دموية، ولها تأثيرات أشد خطورة من نزاع الصحراء على السلم العالمي كالحرب الطاحنة في سوريا، بالنظر إلى المآسي الإنسانية التي نجمت عنها، وبالنظر لكثرة الأطراف المتورطة في الصراع المحتدم فيها ومآلاتها الخطيرة..
غير أن الأمين العام لم يرسل و لو إشارة تضامنية واحدة لضحايا القتال في سوريا من المدنيين، كما لم يذرف ولو دمعة واحدة من دموعه على مآسي اللاجئين السوريين المشتتين على دول الجوار السوري أو على أصقاع الدول الأوروبية، التي بدأت تضيق بهم ذرعاً وتقيم الأسوار في وجوههم.
كما أبانت خططه للسلام ومبعوثوه المتعاقبون عن محدوديتها في إيجاد حل عادل ودائم للصراع في اليمن أو للقضية الفلسطينية أو للحرب الطائفية في العراق أو للحرب في أوكرانيا أو ليبيا وجنوب السودان أو للتهديدات المتوالية باستخدام السلاح النووي والقادمة من نظام "كيم جونغ أون" في كوريا الشمالية وما قد يعنيه ذلك من نتائج كارثية على أمن دول مجاورة كاليابان أو وطنه الأم كوريا الجنوبية، أو حتى دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية التي تحتضن مقر الأمم المتحدة وبالطبع على السلم العالمي برمته.
الأمر الأكيد أن موقف كي مون المنحاز لطرف ا"لبوليساري"و لا يمكن تفسيره بمعزل عن العجز الذي بدأت تعرفه هيئة الأمم المتحدة بشكل عام، والتي أصبحت تشبه إلى حد كبير عصبة الأمم من حيث مستوى ضعفها، أو الاختراقات والتأثيرات المتتالية وصراع المصالح التي بدأت تشهدها بنية الهيئة من طرف لوبيات ضاغطة أو قوى إقليمية ترى أنه ليس من صالحها استمرار الاستقرار في المنطقة أو في مناطق أخرى عبر العالم كالشرق الأوسط أو شمال إفريقيا.
كما تسعى جاهدة إلى إعادة خلط الأوراق والإعداد لترتيبات جديدة في المنطقة، ولا أدل على ذلك من توقيت الزيارة واقتراب موعدها من تقديم تقرير مبعوث السيد كي مون إلى المنطقة، ذلك المبعوث المثير للجدل، والمُتحفظ عليه مغربيًّا السيد "كريستوفر روس"، والذي كان قد شغل أيضاً منصب سفير الولايات المتحدة بكل من سوريا والجزائر، وما ترتب عن ذلك من نسج لعلاقات وطيدة مع قيادات الجبهة الانفصالية وداعميها حتى قبل تعيينه كمبعوث أممي.
كما لا يمكن تفسير الخطوة المثيرة للجدل للسيد كي مون بمنأى عن ترتيبات ما بعد ولايته على رأس هيئة الأمم المتحدة، وما يعنيه ذلك من السعي إلى تحقيقه لمصالح شخصية مع خصوم الوحدة الترابية للمملكة المغربية لا سيما في المجال الإفريقي.
غير أنه وحتى إن كانت الزيارة وما تبعها من مواقف استفزازية لا تحمل في طياتها كثير أهمية في حسابات السياسة أو لتأثيراتها المحدودة على الواقع على الأرض، إلا أنها لا تخلو من إشارات على اختبار مدى صلابة الموقف المغربي بكافة مكوناته السياسية والمدنية والحقوقية والدبلوماسية في الترافع على القضية الوطنية على أكثر من مستوى.
كما تؤشر أيضاً على تبني خصوم الوحدة الترابية لاستراتيجية ترمي إلى إنهاك ومحاصرة الموقف المغربي على أكثر من صعيد لا سيما في المجال الأوروبي حيث ثم نقل الصراع إلى أروقة محكمة العدل الأوروبية، حيث أخذ الصراع ذو البعد السياسي حول الصحراء غلافاً قانونيًّا واقتصاديًّا، وفي المجال الإفريقي والأميركي الجنوبي الذي لطالما شكل حاضنة إيديولوجية ومادية للانفصاليين والآن في أروقة الأمم المتحدة.
على الرغم من كل هذه المتغيرات المتسارعة التي تبعث على القلق بخصوص القضية الوطنية، إلا أن الخيارات المطروحة أمام المغرب تبقى كثيرة ومتنوعة لفرض وجهة نظره ورؤيته لإيجاد حل نهائي للصراع المفتعل حول الصحراء، بداية بتعزيز المسار الديمقراطي والحقوقي والتنموي بالبلاد بهدف تحصين البيت الداخلي، وتبني إستراتيجية دبلوماسية جديدة وفعالة تعتمد على الهجوم وفضح مناورات الخصوم بدل الدفاع وسياسة ردود الفعل والقطع مع سياسة الكرسي الفارغ، والتأسيس لما يمكن تسميته "بالدبلوماسية المناضلة"، عبر الدبلوماسية الموازية وعبر مناظرة وطنية تستوعب كافة الفعاليات المدنية الجادة لبلورة إستراتيجية مستدامة لإدارة الصراع والقطع مع الانتهازيين والمتاجرين بالقضية، وتوسيع دائرة الحلفاء على المستوى الدولي والقاري.
وقد تنتهي باستلهام تجارب دول أخرى في التعاطي مع منظمات انفصالية مماثلة على الرغم من وجود فوارق على مستوى موازين القوى الدولية، وممن لديها صراعات إقليمية مماثلة كإقليم التبت في الصين، أو ضم القرم من قبل روسيا، أو نجاح تركيا في فرض أجندتها وشروطها على الشركاء الأوربيين، من خلال استثمار أزمة اللاجئين وموقعها الجغرافي الحيوي والتي أثمرت عن نتائج في غاية الأهمية بالنسبة للأتراك، كإلغاء التأشيرات على رعاياها، والاعتراف بدورها كقوة إقليمية والسعي إلى إدراج حزب الاتحاد الديمقراطي PYD على لوائح الإرهاب في أوروبا والولايات المتحدة على غرار حزب العمال الكردستاني PKK.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.