لم يكن يُخيّل إليّ أن يأتي اليوم الذي سأشهد فيه على مئات القصص الإنسانية المؤلمة و التي لا يمكنُ للكتب أن تَسَعها .. كَحكايةِ ذلك الشاب الذي نقلنا من مكانِ إقامتنا إلى مكانٍ آخر هرباً من الموت .. كان كما الأبظال لا يهابُ الموت و لا يُحسن إليهِ سبيلا.
كلَّ يوم .. بلا توقيتٍ محدد .. ولا وُجهةٍ محددة .
يستقلُّ سيارته المتواضعة .. و يمضي
" سيجارة " في فمه .. و على المسجّل " أم كلثوم " تصدحُ بصوتها القويّ..
هو في الثلاثين من عمره .. هيئتُهُ توحي بشابٍ مقبلٍ على الحياة بقوة ..
منذ بداية الثورة .. اختارَ طريقَه .. كانَ عليه أنْ ينحاز لطرفٍ ما ..
في ظلّ حربٍ لا ترحم .. حربٍ تبدو طويلةَ الأمد .
اختارَ ما يُريحُ باله و يضمنُ لهُ سيرةً نظيفة له و لعائلته و لولَديْه الصغيرين من بعده ..
ثمّةَ مخاطرة في أن تكونَ سائقاً ينقلُ مَنْ أرادَ الفرار بروحه و دمه إلى مكانٍ أكثرَ أمناً .. وكأنّكَ تذهبُ إلى الموت بقدميك ..
ومعَ ذلك .. كانَ يرى في مهمته تلك .. العملَ الإنسانيّ الذي سَيُدخله الجنة .
لا مُيولَ سياسية لديه .. ولا توجهات دينيّة .. يؤمنُ بإلهٍ واحد .. و يصلي على محمد كُلّما ذُكِر أمامه .. يُحبُّ جميعَ الأنبياء .. ولا يعرفُ تحيّزاً لأيّ مذهب.
لا ينتمي إلى أيّ طرف .. لا يعنيهِ ثائر أو شبّيح أو موالي .. ولا تهمُّه دكتاتورية النظام و لا تصرفات الثوار .. ولا يجدُ في نعتهِ بالمعارض أو الرماديّ أيّ فائدة.
ما يعنيه هو .. ألاّ يتورط في أيّ جريمةٍ ضد أحد .. و ألاّ تتلطّخَ يداهُ بدمِ أيّ مواطنٍ كان ..
معَ الوقت.
أصبحَ له في كلّ حاجزٍ صديق .. الجميعُ يعرفونه و يسمحون له بالمرور ..
حاجزٌ للجيش الحر .. و آخر للنظام .. المعاملةُ ذاتُها .. لا فرق
لمْ يكن ثمّة من خوف .. أمام سيلٍ من الضحايا كلّ يوم ..
الجميعُ مُعرّضٌ للموت في سوريا بطريقة أو بأخرى .. إِنْ لمْ تمُت برصاصةٍ طائشة أو قصفٍ من طائرات النظام .. أو بتفجيرٍ مُفاجئ .. فَسَتلقى حتفكَ لا محالة بقذيفةِ "هاون" أضاعتْ مسارَها باتّجاهك .. لذا لا ملجأَ من الموتِ سوى في تحّديه .. و التمسُّك بالحياة .. و الإيمان بأنْ لا أحدَ منّا يموتُ قبلَ أوانه .
هو كانَ مؤمناً بذلك .. تحدى الموت بسيارته المتواضعة .. و هاتفٍ يرنّ كلّ دقيقة يُخبرُ بأنّ فلاناً أوعائلةً ما .. بحاجةٍ إلى مَنْ يوصلهم إلى مكانٍ آمن .. بشجاعةِ مَنْ لا يخافُ الموتَ أو المجهول .. لا يتوانى في تلبية طلبهم .. فالمضطر هو فقط من يتصل به ..
لذا لا وقتَ للتسويف أو التأجيل .. و المُماطلة أو حتى التجاهل ..
أيّاً كانَ الظرف و أيّاً كانت الوُجهة
لا يكادُ ينتهي من عمله حتى يعود ليرتاح ساعة أو ساعتين .. ينامُ مبتسماً مرتاحَ البال .. سعيداً بكمّ الدعوات الطيّبة التي يسمعها من الجميع على مختلف أعمارهم .. :
" الله يحميك لشبابك .. الله يبعد عنك ولاد الحرام .. الله يجزيك الخير …"
ولكنّ القدر اختارَ له ميتةً لا تليقُ به ..
ذاتَ يوم .. و أثناءَ اقتحام الجيش للمدينة التي يسكنُ فيها .. و أثناء محاولته الفرار مع عائلته ..
كانَ الموت بانتظاره مُتنّكراً بزيّ " دبابة " ..
ما كانَ لِيظنَّ يوماً أنّ نهايته سَتكونُ دهساً .. و أنّ عظامهُ ستتكسر تحتَ دبابةٍ جاءت لتدكّ البيوتَ على رؤوس أصحابها ..
ولم يَخطُرْ في بالهِ للّحظة أنَّ الموتَ سَيَزورُهُ بتلكَ الهيئة ..
كانَ يريدُ مِيتةً مُنتصبةَ القامة .. تليقُ بكلّ ما قامَ به من تضحيات .. كانَ يريدُ لجسَدِهِ أنْ يبقى شاهداً حيّاً .. لا أنْ يغدو عظاماً مُتكسّرة تحتَ آلةٍ صُوّبتْ فُوهتها بوجهِ شعبٍ أعزل ..
نعم .
صارَ بِإمكانِ "الكاتالوغ" السوريّ أنْ يمتلئَ بصورٍ شاهدةٍ على بشاعةِ الموت هناك .. لِيتفرّجَ العالمُ عليها و هو يتابعُ نشراتِ الأخبار كلّ مساء ..
حقاً.
كثيرونَ هم .. أولئك الذين يستحقونَ أنْ تكونَ صورهم في أغلفة الصّحف و المجلات .. متربعين على الصفحة الآولى ..
لكنهم اختاروا أن يكونوا نجوما بلا أضواء ..
و جثثاً بلا مراتب ..
و لا درجات تفضيل ..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.