إن السمة الفارقة لدى عامة الشباب التونسي الذي باشر الثورة، أنهم متحررون من إرث التجارب السياسية السابقة. وذلك عائدٌ إلى القطيعة الجيلية الحادة التي أنتجها عقدان من موت الحياة السياسية. لهذا السبب -أساساً- مثَّل الشباب التونسي عماد التحركات الثورية في تونس منذ 17 ديسمبر/كانون الأول وصولاً إلى اعتصامات القصبة. لكن هذا الحضور بهت وانطفأ تحت وطأة "الماكينات" الحزبية التي يحلو للبعض تسميتها بـ"الدكاكين الحزبية".. ذلك أن العزوف المخيف للشباب عن الانخراط في الحياة السياسية دليلٌ على حالة إحباط قد تكون تداعياتها خطيرةً جدًّا على المدى المتوسط والبعيد. ذلك أن حالة الإحباط تنم عن فشلٍ للطبقة السياسية وتنبئ ببيئةٍ مغريةٍ للخطاب المتطرف الذي يحمل ديناميكية تفتقدها طبقة سياسية مترهلة.
لذلك فإن من أكبر الخطايا التي اقتُرفت في الساحة السياسية التونسية بعد الثورة هي المراوحة بين إقصاء ممنهج للشباب في حالات أو "تدجين" ممنهج لهم في حالاتٍ أخرى. إن جوهر هذا التعامل الأبوي نابع من مسلَّمة أن هذا الشباب غير قادر على القيادة واتخاذ القرارات. هذه المسلمة قائمة بدورها على حقيقة جوهرية، متمثلة في اختلاف البراديغم الفكري بين جيلين لا يكاد يربط بينهما شيء البتة (بالمعنى السياسي). ومرجع هذه القطيعة معلومٌ عند الجميع، وهو تصحير الحياة السياسية منذ محرقة التسعينيات، إذ لم تتحرك الساحة، محاولة إعادة إدماج الشباب جديًّا إلا مع تجربة الديمقراطي التقدمي في سنواته الأخيرة التي بقيت محدودة الانتشار.
أزعم أن هذه الخطيئة هي أحد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في حرمان تونس من التجسيد الجدي للثورة، والانتقال بها من الشارع إلى الواقع السياسي. ذلك أن تمثل الشباب للفعل السياسي هو تمثل مختلف تماماً عن النسق الفكري المنتج للفعل السياسي عند الجيل الحالي من السياسيين (الذي هو في أغلبه جيل الثمانينيات والتسعينيات، وأحياناً حتى الستينيات والسبعينيات).
لا شكّ أن هذا النسق الفكري الشاب بحاجة للصقل والإنضاج، لكنه -في نظري- أقدر ولو نظريًّا على النجاح عمليًّا من باراديغم فكري أنتج ماضياً أليماً، وحاضراً هزيلاً يجرجر تجاربه الصعبة وأحقاده وإخفاقاته يصدِّرها إلى مستقبلنا.
أحد أهم قرائن صحة هذا الطرح هو اعتصمات القصبة.. ذلك أن هذه الاعتصامات كانت فعلاً ثوريًّا سياسيًّا بامتياز، وكانت بلا شك من بنات أفكار الشباب تخطيطاً وتنفيذاً. هذا الشباب كان من روافد فكرية وأيديولوجية مختلفة، ونجح في "إخفاء" تناقضاته تحت يافطة واحدة استوعبت تحتها كل القوى الراغبة في تغيير الواقع نحو الأفضل ونجحت أن تكون في وجدان الشعب الثائر.
معلومٌ أن الحالات/المراحل الانتقالية بين حالتين لظاهرة ما (phénomène) هي الأصعب في محاولة نمذجتها رياضيًّا (modélisation) وتوقع نمط تغيرها بدقة.. ذلك أنها لا تخضع للأنماط الرياضية التي تحكم الحالتين قبلها وبعدها.
كذلك في السياسة.. فإن وضعيات "المنزلة بين منزلتين" هي الأصعب في التعامل معها. وأي معالجة لواقع غير كلاسيكي بآليات تفكير/تقييم -وبالتالي فعل- كلاسيكية هو فشلٌ حتمي.
في السياق الراهن، يكمن مفتاح الفاعلية السياسية في مواجهة المشاكل الحقيقية، واستنباط أنماط ممارسة سياسية خارجة عن النمذجة لمواجهتها. وهذه الأنماط لا يمكن أن تكون إلا نتاجاً لأنساق تفكير وتقييم خارجة عن صندوق الرؤى الكلاسيكية، وهو ما فشل فيه سياسيونا.
إن أول سمة للفعل الناجح اليوم هو ممارسة السياسة (أرض-أرض): بمعنى خوض المعارك الحقيقية، والتخفف من السرديات الكبرى؛ لذلك فإن لدى الطاقات الشابة الموجودة اليوم في تونس القدرة على تقديم إضافة إستراتيجية على المشهد السياسي من هذا الباب.
صفحة القصرين:
أول تغيير مفصلي في المسيرة السياسية بعد دخول الإجرام الإرهابي على الخط وبعد صفحة "التوافق" جاء من القصرين.. إذ أعادت الاحتجاجات الاجتماعية على الطاولة وفي أعلى سلم الأولويات "حصان طروادة" متمثل في رزمة مشاكل جذرية وهيكلية تم تصديرها إلى المستقبل باستمرار.. ألا وهي: مواجهة لوبيات الفساد المالي والإداري، ودولة البيروقراطيات المركبة.
ذلك أن من أهم أسباب عدم تطور الأوضاع هو مسايرة الإدارة في تمشيها البيروقراطي من قبل السلطة.. الإدارة المتعفنة الفاسدة نفسها التي تمارس التعذيب الرمزي اليومي على المواطن. السلطة لم تبدِ أي رغبة في مكافحة الفساد.. بل بالعكس، كانت التعيينات باستمرار في تناسق مع إمبراطورية الفساد الإداري في أغلب القطاعات.
هذه الأحداث أعادت إلى الواجهة المنطق الاجتماعي الثوري، الذي تم تجاهله في السياق بأكمله، اللهم إلا في خطب بيع الوهم في الحملات الانتخابية للأحزاب. كما أحالت على واقع يفضي إلى الحكم بالفشل العميق لطبقة سياسية كاملة.
لا بد وأن الحل للأزمة السياسية الحالية هو نمط فعلٍ وتفكر جديد يقطع مع آليات حكم المنظومة الفاسدة، ومع البراديغم العاقر للفاعل السياسي اليوم، وهذا مُناطٌ عندي بعهدة الشباب أساساً. إذ تبقى نقطة الضعف الرئيسية لهذه التحركات -كما أغلب التحركات بما فيها 2010-2012- أنها عاجزة على تكوين أفق سياسي بقدر ما هي تنفيس للغضب المكبوت، وتعبير عن فشل النخبة في استيعاب الطاقات الشابة لضخ دماء جديدة على مشاهد راكد يجرجر مشاكل السبعينيات والثمانينيات، و"يرسكل" آليات حكم نفس النظام.
هذا الكلام ليس شعبوية تدغدغ مشاعر الشباب ولا بالحماسة السياسية غير الناضجة.. ولا هو دمغٌ للتجارب السياسية السابقة، بقدر ما هو وضعٌ للإصبع على أحد الأسباب الجوهرية التي جعلتنا اليوم بعيدين جداً عن حلمنا ذات 14 يناير/كانون الثاني. كما أنه دعوةٌ للشباب لتحمل مسؤوليتهم التاريخية بإعادة الانخراط الإيجابي في الحياة السياسية والتأثير الإيجابي فيها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.