ما بين “معهد الدوحة” و”التطهير المكانى”!

سياسات إعادة إعمار وإنعاش وتعافي المجتمعات في مراحل ما بعد الصراع تتطلب سياسيات جذرية يتداخل فيها الدور الداخل مع الخارج، لا سيما وأنها عمليات -في الحالة العربية- تتسم بالتعقيد، فقد تتلكأ الحكومات "الوطنية"، أو قد تتذرع بحجج واهية في إنفاذ خطط إعادة الإعمار

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/07 الساعة 06:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/07 الساعة 06:41 بتوقيت غرينتش

حتى وقت قريب، كان مصطلح "التطهير المكاني" يعني حصراً -في وقتنا الراهن على الأقل- السياسات والممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، والتي اتسمت دوماً بالوحشية والاستخدام المفرِط للعنف والتدمير الممنهج للمجال العام أو الحيز المكاني لهذا الشعب.

ولكن هناك نماذج جديدة برزت بعد ثورات "الربيع العربي"، بعد أن قابلت بعض الأنظمة العربية إرادة شعوبها في التحرر بخيار شمشووني (عليَّ وعلى أعدائي)، ليس فقط عبر استخدام العنف "المشروع" للدول لمواجهة حالات "العصيان" و"التمرد" لفرض القانون، وإنما استخدام موجات من العنف "الدولتي" الأعمى بما يتجاوز كافة الحدود الأخلاقية أو القانونية.

وباتت مناظر التدمير التي تطال مدناً عربية عديدة في مرحلة ما بعد الربيع العربي كـ(الرمادي، حمص، حلب، بنغازي، تعز، عين العرب/كوباني.. إلخ)، مشاهد اعتيادية حيث تنقل وسائل الإعلام الجماهيرية الواقع المؤلم هناك لحظة بلحظة، فحال مدنٍ مرّت بتجارب مشابهة في السابق كـ(غروزني، غزة، هيروشيما، دريزدن.. إلخ) يعدُّ أفضل حالاً، وربما لا أوجه للمقارنة بينها وما يجري في سوريا اليوم مثلاً! (ففي هذه الحالة فإن "التطهير المكاني" هو ما نراه ونعايشه يوميًّا ولا نبحث عن تعريف له!).

تطهير مكاني

كان عالِم الاجتماع الفلسطيني ساري حنفي (2009)، قد تناول مصطلح "التطهير المكاني" في سياق تحليله للسلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، حيث تحدّث عن ثلاث استراتيجيات إحداها ما أطلق عليه "إبادة المجال المكاني"، ولكن ما يجري اليوم في سوريا والعراق واليمن وليبيا هو تجسيدٌ عملي لتلك الاستراتيجية، وإن كانت في أماكن أخرى وأيدٍ أخرى! ولقد وُجدت في سوريا والعراق نماذج أكثر بشاعة من النموذج الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وعلى ذلك، فإن سياسة "التطهير المكاني" في سوريا- كما جرت وتجري هي مقصودة ومتعمدة ومرسومة لفرض ما يسمى بـ"سوريا المفيدة"، وهي سياسية تأخذ أبعاداً مركّبة: فهي تطهيرٌ عرقي (بحق العرب السنة) وتطهيرٌ مكاني أيضاً للسيطرة على الحيز الجغرافي لهذه المجموعات السكانية، ومعاقبة بيئات اجتماعية معينة (حواضن للتمرد أو الثورة أو الإرهاب)، وهي "تطهير اقتصادى"، بتعمد تدمير مقومات الحياة المادية للمجموعات المستهدفة، وهي كذلك سياسة "تطهير جيوستراتيجي" -إن جاز التعبير- بحيث تهدف لإفراغ مناطق محددة لصالح مكون سكاني أو فصيل سياسي/عسكري أو استدراج خصم سياسي لإغراقه بأزمات ضاغطة كتدفق موجات اللاجئين وتركيز الأزمات عند نقاط جغرافية بعينها (أوضح مثال لذلك سياسات الروسية والإيرانية تجاه المناطق السورية المحاذية لتركيا عبر استخدام قوات سوريا الديموقراطية).

فما يجري في سوريا اليوم من "اقتلاع" شامل لمكونات معينة، يعتبر نهاية لقوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني كما عرفانها بكل معني الكلمة، بعد أن تخلى ما يسمى بالمجتمع الدولي عن "المثاليات" و"الأخلاق" لصالح خدمة المصالح الإستراتيجية للدول المهيمنة عليه.

أهداف مدنية مشروعة

مع أن "التطهير العرقي" -وهو هنا يتطابق مع التطهير المكاني- كان في الماضي يثير التعاطف الأخلاقي مع "الضحايا"، على العكس بات اليوم عملاً مقبولاً ومبرراً أخلاقيًّا وسياسيًّا من قبل الدول الكبرى! ما دام الهدف "السامي" من ورائه هو استهداف المناطق التي يسيطر عليها "الإرهابيون" لتحريرها وطردهم منها وحرمانهم من الملاذات الآمنة.

كما تبدو سياسة "التطهير المكاني" اليوم وكأنها غير مقيّدة بأي أسس أخلاقية، وهي تعني فشل الدول في إدارة الحروب التقليدية وتنامي أدوار المليشيات على حساب الجيوش النظامية، وكذلك العجز العسكري للدول الكبرى، فالمناطق التي يسيطر عليها أو يتحصن فيها "إرهابيون" -وبطبيعة الحال تكون آهلة بالسكان المدنيين- يتم التعامل معها كأهداف عسكرية مشروعة في أحيان كثيرة!

وكذلك، وكما جادلت ماري كالدور، تقوم بممارسة العنف -في حمأة "الحروب الجديدة" والفوضى وبالتالي سياسة التطهير المكاني- جهات متعددة في الوقت نفسه (في حالة الدول العربية: في بلد أو مكان واحد!): الجيوش النظامية، القوات الأجنبية والمرتزقة، والمليشيات المحلية والشبكات والعناصر الإجرامية.. ما إلى ذلك..

ما بعد الصراع

بالنتيجة، تؤدي سياسات "التطهير المكاني" لخلق أوضاع كارثية لا تتوقف نتائجها على الحاضر، وإنما المستقبل كذلك، فالعواقب الكارثية لتلك السياسات -في حالة البلدان العربية- لا تنحصر في الظروف القاسية الراهنة فحسب، وإنما تتعدى ذلك لمستقبل هذه الشعوب والأجيال اللاحقة بشكل عام.

ومن هنا، فإن سياسات إعادة إعمار وإنعاش وتعافي المجتمعات في مراحل ما بعد الصراع تتطلب سياسيات جذرية يتداخل فيها الدور الداخل مع الخارج، لا سيما وأنها عمليات -في الحالة العربية- تتسم بالتعقيد، فقد تتلكأ الحكومات "الوطنية"، أو قد تتذرع بحجج واهية في إنفاذ خطط إعادة الإعمار، وربما تنفذها بطريقة تؤدي إلى إفراغها من مضمونها، احتمالات حرمان المناطق المدمرة من فرص أو مشروعات تساعدها على الخروج من تلك الوضعية، وأيضاً يتوقع أن يتقاعس المانحون الأجانب، نظراً لحجم التدمير الواسع، ومن المرحج كذلك أن تدخل الدولة الكبرى في مساومات ومنافسات للفوز بالعقود الضخمة.

إن التخطيط بعيد المدى لمراحل ما بعد الصراع يتطلب ذلك عملية مجتمعية واسعة وتتولاها كوادر مؤهلة ومدربة تستفيد من الدعم الفني الخارجي في مجال بناء القدرات والتدريب والتأهيل، بمشاركة "أصحاب المصلحة" أي الفئات الأكثر تأثر أو استفادة أو التي تكون مستهدفة بتلك السياسات، فضلاً عن مشاركة المنظمات المحلية في تلك العمليات والخطط.

العمل الإنساني

في هذا السياق، وفي خطوة لافتة حقًّا، تزامن إعداد موضوع هذا المقال مع مناسبة علمية تستحق الاحتفاء لاندراجها في صلب هذا الموضوع، وهي إعلان "معهد الدوحة للدراسات العليا" في الثالث من شباط/ فبراير المنصرم عن تأسيس "مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني" وإطلاق برنامج جديد لدرجة الماجستير في تخصص "إدارة النزاع والعمل الإنساني"، وجاء في بيان التدشين أنه: "مركز بحثي جديد عابر للتخصصات، ويختص بدراسة النزاعات والأزمات الإنسانية وهشاشة الدولة والتحولات المجتمعية من الحرب إلى السلم في المنطقة العربية".

وكما هو واضح، فإن المركز يهدف إلى تخريج إعداد كوادر مؤهلة للعمل في مجالات الغوث والعمل الإنساني، وبطبيعة الحال المهام والوظائف اللازمة لمراحل إدارة الأوضاع الحالية، وكذلك مراحل "ما بعد النزاع"، فضلاً عن رسم السياسات وتقدير الاحتياجات التنموية وفق مناهج وطرائق علمية والمعايير العالمية.

إن أهمية المعهد/البرنامج لكونهما سيسدَّان فراغاً كبيراً في الواقع العربي الراهن، وسيؤديان لربط المعرفة والبحث العلمي بالواقع والاحتياجات الفعلية لهذه المجتمعات، في ظل النقص في الكوادر المؤهلة-في أغلب المجتمعات العربية- في المجالات الإنسانية الحيوية (الكوارث، والحروب والنزاعات، حالات الطوارئ..) والتي تتفرد بها المنظمات الأجنبية، وذلك للآتي:

أولاً: الحاجة لربط البحث العلمي بالاحتياجات الفعلية للمجتمعات العربية عبر أجندة بحثية مستقلة مدروسة مسبقاً وبعناية.


ثانياً: ضرورة التحرر من التبعية المعرفية، حيث إن البحث العلمي -المثمر والجاد- في السنوات الأخيرة بات هو من صنع "أجندة" بحثية تخدم أطرافاً خارجية مهما تحلت بالموضوعية والحياد.

ثالثاً: الانتقال بالبحث العلمي والتكوين المعرفي للدارسين من الشقشقات النظرية الرتيبة إلى المزاوجة بين النظريات الحديثة والتجارب العملية والبحوث الميدانية حول المجتمعات العربية، بما يساهم في إنتاج معرفة حقيقية بعيداً عن النمطية والكليشيهات الاستشراقية المهيمنة اليوم.

ووفقاً لذات البيان، فإن البرنامج الجديد لـ"معهد الدوحة" سيعمل بشراكة مع مؤسسات مرموقة وذات خبرات طويلة في المجال منها: "الهلال الأحمر القطري"، ومعهد دراسات السلام في أوسلو، و"مجموعة السياسات الإنسانية" لدى المعهد الدولي للتنمية في لندن و"المنتدى الإنساني" بلندن، حيث سيستفيد المتخرجون من خبرات تلك المؤسسات في التكوين المعرفي والمهني والتدريب، وهو ما سيمكنهم من الإسهام في بلورة أجندة أكاديمية تعكس الحاجات الفعلية لشعوبهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد