باكتمال اليوم أكون قد أنهيت خمس سنوات من عمري بعيداً عن دمشق التي غادرتها لآخر مرة في الثامن من مارس 2011 قبل الثورة بأسبوع، كانت دمشق وقتها تعيش حالة قلق مما يجري في العالم العربي بعد ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن، النظام والشعب ينتظران شيئاً لا يدركان ماهيته، مشاعر متبدلة ومتفاوتة بين القلق والترقب والخوف والأمل.
أجهزة المخابرات سمعت وقتها عن أن فيسبوك هو الذي حرّك شعوب دول الربيع العربي، فاستدعت عدداً من المعارضين، وقد ظنت أن هؤلاء هم الذي سيحركون السوريين ضدهم، ومن بين أسئلتها عن رأيهم فيما يحدث في تلك البلدان العربية، سألتْهم ما إذا كان لديهم حساب على فيسبوك، وكيف يستخدمونه ولأي غرض؟ وكان ضابط الأمن الذي تعوّد لعقود خلت على أن أدلة الاتهام هي المنشورات والبيانات وصحف الأحزاب المحظورة واعترافات أعضاء الأحزاب على بعضهم البعض للإمساك بخريطة أي تنظيم، يفتح فمه وهو يقف متأملاً الصفحة الزرقاء لفيسبوك على شاشة حاسوبه، مفتشاً في زواياها من دون أن يدرك أو يتوصل لأي دليل يدين أحداً أو يكشف تنظيماً، ويستعين بكل من يعرفهم لمساعدته في إعداد التقرير الذي سيقدمه لرؤسائه حول اكتشاف المؤامرة من دون جدوى.
كان لسان حال الجميع النظام الناس: نحن لن يحدث لدينا هذا، فالجميع كان متأكداً من أن السوريين قد ماتوا وشبعوا موتاً، وأن النظام بعد أن قضى على ربيع دمشق، وتجاوز مأزق اغتيال الحريري وعاد إلى المجتمع الدولي يتصرف كطاووس، وخرج وقتها بشار الأسد ليعلن بالفم الملآن أننا في سوريا غير، وأن الشعوب التي ثارت على حكامها كانت دوافعها مختلفة؛ لأن أنظمتهم كانت على علاقة بإسرائيل، في حين أننا في سورية رأس المشروع الممانع لها.
وكانت هذه الأسطوانة تتردد بالحرف والنقطة والفاصلة على ألسنة كل جماعة النظام، بالطريقة التي يصفّر فيها إنسان مرعوب يمشي في منتصف الليل داخل مكان موحش ليسلي نفسه ويوهمها بأنه غير خائف، وأذكر أيامها أنني كنت أتسلي بمجادلة المخبرين الذين تفرزهم فروع المخابرات للعمل كسائقي تاكسي لحسابها كجزء من شبكتها في السيطرة على البلد وضبطه أمنياً، وقال لي أحدهم بلهجته العلوية وهو يستجيب لطلبي بأن يغيّر محطة الراديو لنسمع آخر أخبار مبارك: معهم حق أن يثوروا عليه فهو من جماعة كامب ديفيد، وعندما قلت له: ولكن الناس ثارت عليه ليس لهذا السبب، وإنما لأنها تطالب بالحرية والكرامة وعدم توريث ابنه، رفع صوت الراديو إلى أعلى درجة والتزم الصمت إلى حين وصولي للمكان الذي نزلت فيه.
أَتَذَكَّر جيداً في تلك الأيام حين كفَّت شرطة المرور عن حمل دفاتر المخالفات، وكانوا يقتربون من السائقين بكل تهذيب ويسدونهم النصائح وهم يبدأون كلامهم بأخي المواطن، وينهونه بأن كل ما يهمهم هو مصلحته وسلامته، وفلت المرور على الآخر أمام أعينهم من دون أن يستطيعوا فعل شيء، فالأوامر كانت صارمة لهؤلاء، خاصة بعد أن انتشر أن الكف الذي ضربته الشرطية التونسية للبوعزيزي هو الذي أدى لاشتعال ثورة تونس.
كان النظام بأكمله مرعوباً، وأتذكر أنني دخلت مرةً في شجار وعلا صوتي في مبنى إدارة الهجرة والجوازات، لأن موظف قسم المحفوظات (وهو الجهة التي تفيّش الناس أمنيًّا) رفض منحي الموافقة على تجديد جواز سفري بحجة أنني ممنوع من السفر، وأنا أحاول إفهامه عبثاً بأن عليَّ بلاغ من إدارة الأمن السياسي في دمشق بأن يتم تسجيل تاريخ وصولي ومكان إقامتي عندما أدخل سوريا، ومكان ذهابي وعلى أي خطوط طيران عندما أغادرها، وهذا ليس منعاً من السفر، فرأيت رئيس الإدارة قادم ليستفهم عن سبب صراخي، ثم دعاني إلى غرفته وطلب لي فنجان قهوة بعد أن أعطى أوامره بإنجاز معاملتي، ثم أغلق الباب وبدأ يشتكي همساً وعينه على الباب بأن قانون الطوارئ لم يعد له لزوم بعد كل هذه المدة، وأن ضباط الشرطة مظلومون لأن القيادة لا تفكر بهم، إلى حد أنها حين تختار وزيراً للداخلية تأتي به من المخابرات وليس منهم.
في نفس الأيام اندلعت مظاهرة الحريقة فجأة، وجاء وزير الداخلية لإنهائها وتطييب خاطر الشاب الذي ضربته الشرطة، واستسماح أهله وتجار الحي عن رعونة الشرطة، وكانت هذه المظاهرة حدثاً استثنائيًّا وإشارة لا يجب تمريرها، وقبلها كان المهندس غسان نجار قد دعا في الخامس من فبراير/شباط إلى يوم غضب سوري ينزل فيه السوريون إلى الشوارع، وعلى الرغم من أن أحداً لم يلبِّ نداءه، وضحكت على دعوته السلطة والمعارضة معاً، إلاّ ذلك لم يقلل من أهمية الدعوة غير المسبوقة.
كان الكل السلطة والناس يعرفون أن الأرض تتحرك من تحتهم وهي تنتظر صدفة أو شرارة أو حدثاً ليس على بال أحد أو على خاطره، باستثناء المعارضة التي كانت تتحدث عن ظروف موضوعية لم تنضج، وأنه بكير علينا أن نتفاءل الآن، وأن النظام خرج من كل مآزقه ويعيش الآن أسعد أيامه، وأتذكر جدالاً عالي الصوت نشب بيني وبين أحد المعارضين في سهرة بحجة تهوري، وحديث معارض سبعيني لي بأن من الممكن أن تحدث ثورة ولكن ليس في حياته.
في تلك الأيام بدأ الناس يتقدمون على المعارضة بخطوات، وينفذون بأيديهم مشروع التغيير الذي طالما ادعت المعارضة حمله والسير به، وعندما جاءت اللحظة الحاسمة حسبتها كثيراً، وجمعت وطرحت وضربت وقسمت قبل أن تقرر الالتحاق بشعبها، الذي كان قد سبقها ونزل إلى الشوارع، فيما كانت لا تزال هي أمام شاشات التلفزيون تقدّر الموقف وتنتظر الظروف الموضوعية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.