ربما علينا أن نعترف أنه نظريًّا وتطبيقيًّا لا يمكن فصل الدين عن السياسة، سيبقى الدين حاضراً سواء على شكل دافع للسياسي أو كون السياسي له دافع ضده، بمعنى آخر سيحضر إيجاباً أو سلباً. الدين أحد الخيارات المطروحة أو المتاحة لتكوين رؤية للعالم أو الكون، وكونه كذلك ستكون هذه الرؤية مقبولة أو مرفوضة كليًّا أو جزئيًّا في وعي أي إنسان -بطبيعة الحال- ولا يمكن لإنسان ادعاء أو إثبات ادعاء أنه بمعزل عن الموقف من الدين أو التدين مهما كان توجهه، والرؤية للعالم -حتماً- تحدد الكثير من الخيارات والانحيازات الأخلاقية، التي بدورها تحدد الانحيازات القانونية والاقتصادية التي هي عصب السياسة وربما كلها في أي شكل سياسي كان.
المتاح الممكن هو فقط استثناء إمكانية الاستقواء المعرفي بكل أشكاله عن الممارسة السياسة -ومن باب أولى غيره من الاستقواءات- إذ لا يحق للسياسي الاستقواء بالدين والغيبيات في عمل مثل السياسة، حيث يمارسه المتدين وغير المتدين والمؤمن وغير المؤمن، وكذلك لا يحق للسياسي الاستقواء بأي شيء عن طريق احتكار النطق باسمه سواء كان الله أو العلم أوالفلسفة، يحق للسياسي كون السياسة عَالم نسبي أن يطرح رأيه ويشرح حججه التي بنى عليها قناعته بدون استقواء واحتكار، أما الفصل بين الأفكار -أي أفكار- والسياسة أمر مستحيل وضرب من الخيال لم يتحقق ولن يتحقق برأيي..
ربما يمكن للسياسي أن يستقوي بحججه الأيدلوجية -مهما كانت- بين الأفراد والهيئات التي تتبنى الأيدلوجيا، لكن في العمل العام يصبح ذلك من العبث، مع التأكيد أن الاستقواء المعرفي غير مفيد وغير صحي حتى داخل الأيدلوجيا الواحدة.
بمعنى مختصر، يمكن فصل الدين -وغيره من الأيدلوجيات- عن الممارسة السياسية الإجرائية، لكن لا يمكن فصله عن السياسة، وهذا جوهر العَلمانية في التطبيق السياسي، أن تكون المؤسسات الإجرائية في الدولة ذات طابع محايد، لكنها قابلة لمعالجة مدخلات ومخرجات ذات أيدلوجيات متنوعة، أما في حال كانت هذه المؤسسات طاردة للدين فهي تفقد حيادها، وتصبح غير عَلمانية سياسياً بل يمكن تسميتها مثلاً "لادينية" أو أي شيء آخر يصلح لوصف حالتها.
وبشكل عام، لكي نكون واقعيين غير حالمين، يجب أن نعرف أن هذا الكلام تنظيري لا يتم بشكل مثالي في أي مكان في العَالم، لكن كأي منظومة نسبية لا يمكن أن تكون ملائكية أو شيطانية فهي تحاول أن تقارب النموذج المثالي قدر المستطاع، ويجب أن يبقى في الوعي استحالة مطابقة الواقع للنموذج، وبالتالي ستكون العَلمانيات نسبية ومتفاوتة تتأرجح لليمين واليسار لتحقق حدٍّ مقبول من العيش في هذا العَالم قبل أن نغادره جميعاً إلى نقطة واحدة نتفق جميعاً على وجودها هي "الموت"، ومن الجميل أن لا يحصل لنا هذا الموت بسبب صراعاتنا حول السياسة وما تستثمره السياسة من دين أو غيره من الأيدلوجيات والأفكار والرؤى والفلسفات التي هي في النهاية مجرد غطاء لمطامع البشر ورغبتهم في السيطرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.