قبل أيام كنت من بين جمهور مغربي حضر العرض الترويجي للشريط السينمائي الجديد "جوع كلبك" starve your dog لمخرجه المغربي هشام العسري، وهو أحد الأفلام المغربية الحديثة الإنتاج، التي تدخل ضمن سلسلة أفلام هذا المخرج الشاب، وتحكي واقع المغرب الاجتماعي والسياسي بأسلوب محدث ومبدع..
يبدأ المخرج العسري أول مشهد من مشاهد شريطه السينمائي، بلقطات حية غير سينمائية، لسيدة يظهر انتماؤها للطبقات الكادحة في المجتمع المغربي، وهي ترغد وتزبد غضباً من الحالة المأساوية الاجتماعية التي تعيشها هي وكل المنتمين لطبقتها الاجتماعية المضغوطة، قبل أن تختم السيدة كلامها بعبارة بسيطة قالت فيها "الله يَعْطِينَا الزلزال بَاشْ يَتْعَاود كولشي يَتْقَادْ"، فيما معناه باللغة العربية "نسأل الله أن يرزقنا زلزالاً يدمر كل شيء ويعيد ترتيب الوضع من جديد بالعدل!".
هذا الكلام الذي ختمت به السيدة كلامها، قابله الحضور في قاعة العرض بضحكات متعالية، تنم عن فهم عميق لمضمون العبارة، لكن غير العارف بالتفاصيل والحيثيات المحيطة بهذه العبارة في المجتمع المغربي، والتي تندرج ضمن صنف الكوميديا السوداء هنا، قد لا يفهم السبب الذي جعل السيدة تنطق كلماتها تلك، كحل تراه مناسباً لمشكلاتها، كما قد لا يفهم تفاعل الجمهور مع عبارتها التي استغلها المخرج خير استغلال ليلخص كثيراً من الكلام في فيلمه الذي يحكي أصلاً عن حقبة سياسية اجتماعية قديمة حديثة طبعت تاريخ المغرب بالخوف والرعب، وهي فترة حكم وزير الداخلية المغربي الراحل إدريس البصري.
ما يجب أن يعلمه المتأمل في كلام السيدة، أنه في المغرب وليس في أي مكان آخر، الزلزال لا يحمل معنى وحيداً مرتبطاً بالدمار والخراب والتشريد والضياع، ففي المغرب، والذي أظهر نجاعة مقاومته تاريخيًّا في ثورتها ضد المستعمر، وأظهر كذلك عدم نجاح الثورة بمعنى الانقلاب على النظام، ولو على الأقل في التاريخ الحديث للبلد، بات الزلزال بالإضافة لنتائجه المدمرة، حلًّا يُعَلَّق عليه الأمل لحل كل المشاكل..
قد يعترض البعض على هذا الكلام ويصفه بعدم الواقعية، لكن كلمات السيدة هي نفسها التي ينطقها من ضاق به الحال في المغرب فلم يجد مخرجاً، وحتى الواقع يحكي لنا أن ما كان يمكنه أن يسمى ثورة في المغرب، لم يكن مطلباً لأفراد الشعب البسطاء من غير المسيسين، "فالثورة" الأخيرة التي استوردها عديدون كموضة من الشرق في سياق ما يسمى "الربيع العربي"، وأعطوها اسماً في يوم من الشهر غير المكتمل في العام، لم تكتمل كما يجب، بل ولم تكتمل معها آمال أصحابها وما كان يعدونه للخارجين وراءها، إذ لا شيء تغير اجتماعيًّا بالمغرب، منذ قدومها وحتى اندثارها، فلا الحاكمون الجدد من الإسلاميين المحدثين استطاعوا تغيير شيء في الوضع وزادوه تعقيداً، ولا القوانين والمراسيم التي أصدرت رفقة هذه "الثورة المستقدمة" غيرت من واقع المغرب، إلا من فتات أطاره الريح عند أول هبة، ورغم ذلك لم ينجح منطق الثورة كما نجح منطق الزلزال على الأفواه وفي الواقع القريب أيضاً.
سيتساءل البعض عن السبب الواقف وراء قناعة الكادحين بالمغرب بأن الزلزال هو الحل الذي بموجبه سيتغير المغرب، والجواب نجده بعملية نبش بسيطة في تاريخ المغرب القريب، حين ذكر الكارثة الزلزالية التي أصابت المغرب في جنوبه بمدينة أكادير عام 1960، وهو الزلزال الذي كان فأل خير على هذه المدينة، التي لم تكن شيئاً قبل الزلزال لتصبح بعد الزلزال شيئاً عظيماً، يعرفه القاصي قبل الداني، بمقومات لا يمكن سوى أن تقدر، ثم بعدها الكارثة الزلزالية التي أصابت مدينة الحسيمة عام 2004 والتي كانت رغم مآسيها وضحاياها، فاتحة خير أيضاً ليس على المدينة لوحدها بل على منطقة الريف كلها التي تقع في إطارها المدينة، والتي أصابتها "بركات الزلزال".
هذا الزلزال الأخير للحسيمة وما تبعه من تغيير على أرض الواقع من خلال عمليات إعادة إعمار ومشاريع اقتصادية، شهدتها المنطقة لأول مرة بعد عقود من التغييب، لم يكن فأل خير هذه المرة على طبقات الشعب لوحدهم، ولكنه كان "فأل" خير على المفسدين بدورهم، من خلال عدد من مشاريع انتقلت من مخططات التدشين، إلى جيوب المفسدين، فأصبحت بالتالي "دعوة زلزال الريف" منفعة للكادحين وحتى المفسدين.
هكذا إذن، وبكل بساطة يرى المغربي المتضرر دائماً -وحتى المتضرر حسب تقديره لنفسه غير المتضرر في نظر المتضررين- أن الزلزال هو الحل لإعادة تقسيم الكعكة، فلا الثورة ولا السياسة ولا الانتخابات ولا التقارير ولا فضح الإعلام ولا الشكوى المرفوعة إلى الله، تنقذ الكادحين من معاناتهم، إنما هي دعوة يقينية ملفوفة بشيء من الخوف وكثير من الأمل.. دعوة زلزال شامل يهز الأركان فيغير ما فوق الأرض، ويعيد ترتيب السطح والأطراف، ويجعل القمة سهلاً منبسطا للجميع سواء، كصحن رمل كثرت تضاريسه فساء المشي فيه.. إلى أن يحل الزلزال الذي ينفع ولا يضر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.