"هل تقدم التجربة التشيلية مخرجاً لمصر؟" هذا السؤال الهام سأله "أريل دورفمان".. المناضل اليساري ذو الأصول الأرجنتينية والمعروف عنه مقاومته لنظام الجنرال بنوشيه في تشيلي.
فقد ذكره ما حدث في مصر بعد انقلاب يوليو/تموز 2013 بما حدث في تشيلي من قتل وتعذيب واختفاء قسري. وأعرب عن ألمه الشديد أن يعيد التاريخ نفسه بهذه الطريقة العبثية في القرن الحادي وعشرين: نفس الجنرال ذو النضارة السوداء والوجه العبوس، الدبابات وعساكر الجيش المنتشرة في الشوارع، السجون المكتظة بالأجساد الواضح عليها آثار التعذيب، الآلاف من المعارضين في المنافي.. نفس الجرائم التي ترتكب باسم الدولة والوطن والشعب!
يحكي بإسهاب في مقاله عن ضعف المعارضة التشيلية وتشتتها، وإدانتها لبعضها بعضاً وافتقادها القدرة على العمل المشترك، وكيف رغم ذلك استطاعت في النهاية أن تتحد وتُسقط الديكتاتور. ويتوجه بنصيحة للمصريين للاستفادة من تجربة تشيلي في التخلص من جنرالهم ونظامه القمعي.
يتحدث "دورفمان" عن حالة تشيلي قبل وقوع الانقلاب والتي عانت من:
1. ضعف الرئيس المنتخب سلفادور الليندي وعدم قدرته على استيعاب المعارضة.
2. رفص الحزب الليبرالي المعارض لنداءات الرئيس الليندي المتكررة وحتى اللحظات الأخيرة لإيجاد مخرج دستوري للأزمة واستمرار اتهام الليبراليين له بالاستحواذ على السلطة.
3. قيام الليبراليين بالتحريض وإشعال الساحة السياسية واستدعائهم للعسكر للتدخل للإطاحة بالليندي الرئيس المنتخب، ظنًّا منهم أن العسكر سيسلمونهم السلطة في النهاية.
4. وجود عناصر متطرفة داخل تيار اليسار أرهبت الطبقة الوسطى وقطاعات عريضة في المجتمع التي صدقت مزاعم الثورة المضادة أن تشيلي ستتحول إلى كوبا أخرى تحت رئاسة الليندي وإلى نظام يساري يقصي الآخرين.
5. قصر النظر لدى النخب السياسية والحزبية والأنانية وغياب الخيال السياسي في معالجة الأزمات.
6. الدور الإقليمي (الولايات المتحدة الأميركية) في دعم الثورة المضادة والمؤسسة العسكرية والإطاحة بالتجربة الديمقراطية الوليدة.
تشابه عجيب مع الحالة المصرية، ولكن كيف استطاعت المعارضة التشيلية أن تتجاوز هذه الأزمات؟
لم يكن التطور في المواقف سهلاً، وإنما احتاج إلى كثير من المراجعات المؤلمة من الأطراف السياسية، إلى أن وصولوا إلى قناعات أدت في النهاية إلى:
• الإدراك المتزايد بحجم المأساة التي أوقعوا فيها البلاد، وبوطأة النظام العسكري وأجهزته القمعية البوليسية التي أدخلت تشيلي فيما عُرف بـ"سنوات الظلام واليأس".
• تجنب أطراف المعارضة تبادل الاتهامات وتوجيه اللوم لبعضهم بعضاً، حيث ظهر لهم أن الأهم والأولوية يجب أن تعطى للتخلص من نظام الجنرال القمعي.
• الاتفاق على أرضية مشتركة يقف جميع أطراف المعارضة السياسية فوقها، وعلى هدف واحد يمكن أن يُجمع عليه كل الشعب.
هذا الإدراك والتقارب بين أطياف المعارضة دفع إليه الإحساس بحجم الأزمة والمأساة التي تعيشها تشيلي تحت حكم بنوشيه والعسكر، وكذلك الإحساس بالمسؤولية الشخصية ومحاسبة كل طرف لنفسه عما وصل إليه حال البلاد.
يتذكر" دورفمان" أن كل طرف تعلم من دروس الماضي بعد محاسبة طويلة ومريرة مع النفس واستيعاب الأخطاء التي ارتكبها حرصاً منها على ألا تتكرر في المستقبل:
اليسار الذي أطاح به الجنرال من الحكم أدرك التالي:
– ألا يأخذ الديمقراطية ومتطلباتها كأمر مسلم.
– أهمية تعلم التعامل مع الاختلاف دون كره الأطراف الأخرى أو التقليل من شأنها.
– عدم التقاعس عن إدانة أي انتهاكات لحقوق الإنسان في أي مكان في العالم، خاصة لو ارتكب هذه الانتهاكات جماعات أو أنظمة موالية لهم.
الليبراليون من جانبهم أدركوا التالي:
احتياجهم أن ينتقدوا انتهازيتهم.
أهمية أن يتخلصوا من عدم مبالاتهم بمعاناة وعذاب الآخرين ممن يخالفونهم التوجه.
الحاجة إلى مراجعة إحساسهم أنهم يمتلكون الحق وأن ينتقدوا ارتباطهم بالسلطة والثروة في تشيلي والخارج.
كلا الطرفين تعلم ممارسة التسامح مع الطرف الآخر خلال فترة مقاومتهما المشتركة للنظام القمعي، وتعلم تجاوز الماضي والتغلب على المرارة والكراهية القديمة. لأنهم أدركوا أن بنوشيه لن يسقط إلا إذا بدأوا في الثقة ببعضهم بعضاً، وإلا إذا اتفقوا جميعاً على رؤية لمعالم النظام الذي سيخلف هذا الجنرال الديكتاتور، مع الحرص على التركيز على ما يجمعهم اليوم وترك ما يفرقهم للغد.
ويوجه "دورفمان" خطابه للإخوان والليبراليين في مصر قائلاً:
للا شك أن هناك الكثير من المرارة التي تمزق الإخوان والليبراليين. ولكن بينما هم يمزقون بعضهم بعضاً، عليهم أن يتذكروا جيداً أن الذي يمزق الجميع اسمه الجنرال عبد الفتاح السيسي، آخر ورثة بنوشيه."
ولأن زمار الحي لا يطرب، هل يمكن أن نستوعب الدرس من "أريل دورفمان" المناضل التشيلي المتألم لما يحدث في مصر؟
الهدف الذي التف الجميع حوله في تشيلي كان هدفاً بسيطاً جدًّا. وهو التصويت بـ"لا" في الاستفتاء الذي أجراه نظام بنوشيه لاختبار شرعيته بعد 15 عاماً من حكمه القمعي المطلق. ولم يكن أحد يصدق -حتى داخل أطراف المعارضة أنفسهم- أنهم يستطيعون هزيمة الديكتاتور في هذا الاستفتاء الذي حشدت له الدولة وأجهزتها كل إمكاناتها من مشاهير الفنانين والممثلين وأعوان النظام من الإعلاميين والسياسيين. ولكن المعارضة الديمقراطية التشيلية فعلتها في النهاية عن طريق إقامة تحالف واسع من قوى المعارضة سمي بـ"الكونسرتاسيون" أو "التنسيقية"، ضم جبهة عريضة من الأحزاب والقوى السياسية وقطاعات الشعب المعارضة للانقلاب.
والمعارضة أيضاً في مصر لن نستطيع أن تتخلص من الدولة القمعية البوليسية وإقامة "دولة الشعب" إلا بتكوين جبهة عريضة تتوافق أطرافها السياسية على "رحيل" هذا النظام الفاشل الذي قمع الحريات، وأضر بالاقتصاد، وأهان كرامة المواطن، وهدد الأمن القومي لمصر.وليكن هذا هو الهدف الذي يجتمع المصريون عليه. وليكن البدء بتجاوز الماضي والتركيز على ما يجمعنا اليوم وترك ما يفرقنا للغد والعمل على تبني رؤية واضحة لمصر المستقبل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.