ما بعد الدولة الوطنية و”أيتام” الشرق الأوسط الجديد

إن النظام الرسمي العربي -بالمقارنة- نجده قد هرِم وشاخ وتآكل، فلم يعد قادراً على مواكبة التحولات التي تبلورت في العقود الأخيرة من حوله وتؤثر عليه وعلى شعوبه، عدا عن كون دوله القُطرية تئن تحت وطأة فشل متراكم، حتى أنه من الصعب الحديث عن نموذج "دولة" في النظام الرسمي العربي بالاستناد لمؤشرات قياس "قوة الدول" وغيره من المعايير.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/26 الساعة 01:16 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/26 الساعة 01:16 بتوقيت غرينتش

يعيش الوطن العربي حالياً تحولات عنيفة وجذرية في خضّم مرحلة تاريخية ومفصلية، سوف تؤسس لجغرافيا سياسية جديدة قد تطوي صفحة الدول القُطرية أو الوطنية التي هيمنت كنظام سياسي لعقود منذ تأسيسها وفقاً بمبدأ القسمة الاستعمارية (سايكس- بيكو) في 1916، كما تؤشر هذه المرحلة الراهنة كذلك لإمكانية بروز أشكال جديدة للتنظيم السياسي في دول هذه المنطقة، في خضم صراع عنيف بين مشاريع سياسية إقليمية ودولية تجد شعوب المنطقة إزاءها في حالة أشبه باليُتْم.

إن أكثر الحقائق بروزاً اليوم هي غياب المشروع الإقليمي العربي في مواجهة المشاريع الإقليمية (إيران، تركيا، إسرائيل) أوالدولية ( روسيا الاتحادية، الولايات المتحدة وآخرون)، فالدول العربية المكوِّنة لهذا النظام باتت اليوم مفككة أكثر من أي وقت مضى، كما أنها في صراع مع شعوبها!

مع تزايد وتيرة العولمة، تبرز تكتلات إقليمية أسست لتجارب "فوق قومية" وتكتلات ناجحة قامت على قاعدة قوة الدول فيها، حيث أدركت النخب والطبقات السياسية- بعد أن تحققت على المستوى القُطري وراكمت منجزات لصالح الشعوب- أن مصالحها ككيانات ومصالح شعوبها أيضاً، تحتّم عليها الانخراط في تكتلات إقليمية أو"عبر إقليمية" فاعلة، هذا خلاف في تجربة الدولة العربية المعاصرة التي ظلّت ضعيفة على كافة المستويات، وبذلك أفقدت شعوبها المناعة اللازمة التي تحتاجها في مواجهة الأزمات والتحولات التاريخية كتلك التي نعيشها اليوم.

إن النظام الرسمي العربي -بالمقارنة- نجده قد هرِم وشاخ وتآكل، فلم يعد قادراً على مواكبة التحولات التي تبلورت في العقود الأخيرة من حوله وتؤثر عليه وعلى شعوبه، عدا عن كون دوله القُطرية تئن تحت وطأة فشل متراكم، حتى أنه من الصعب الحديث عن نموذج "دولة" في النظام الرسمي العربي بالاستناد لمؤشرات قياس "قوة الدول" وغيره من المعايير.

على مستوى النقاشات الأكاديمية، تباينت القراءات حول تفسير ظاهرة الدولة الوطنية/القُطرية في الوطن العربى، ما بين قائل بأنها تمثل الحلقة المفقودة في تاريخنا، إلى قائل بأنها دول "الثقب الأسود" إلى آخر يقول بأنها ضرورة وشرط لبناء دولة-أمة قائمة على المواطنة، قبل الانتقال إلى تحقيق الدولة القومية.. إلخ.

ولكن هذا الجدل النظري بات ترفاً فكريًّا وينزاح بعيداً الآن.. بعيداً ليحل محل نقاشات عن "توقعات" و"سيناريوهات" و"مخططات" كابوسية قيد التشكل في الوقت الراهن، لا تهدد فقط الدولة الوطنية -على علّاتها- ولكن تهدد وجود المجتمعات والشعوب العربية برمتها، في ظل سياسات "التطهير المكاني" و"الاقتلاع" الممنهج والرامية لإحداث تغييرات ديموغرافية.

يجمع كثيرون على أن ثورات "الربيع العربي" كانت فرصة تاريخية للقطيعة مع إرث الفشل والتبعية وتحقيق الاستقلال في الإرادة السياسية، ولكن سرعان ما تضاءلت الآمال بولادة "ديمقرطية عربية" من رحم تلك ثورات، إذ وأدت قِوي "الثورة المضادة" الديمقراطية العربية الناشئة في مهدها، واضعة الشعوب العربية مرة أخرى في مهب الريح.

وبعد مُضي أكثر من خمس سنوات على اندلاع ثورات "الربيع العربي" وما تبعها من تحولات تتجلى الحقائق الجديدة التالية:

أولاً: انهيار الدول العربية الكبرى التي ظلّت تتنافس على القيادة والهيمنة الإقليمية وتشكِّل "ملامح" نظام إقليمي عربي جديد بقيادة المملكة العربية السعودية من خلال تحالف (عاصفة الحزم) وما يجري من تحضير للتدخل في سوريا، ولكنه يبدو متردداً ومفككاً وتابعاً وقابلاً للتبعية للقوى الكبرى والخضوع لمساوماتها وابتزازها؛ كما تبدو الهيمنة والقيادة فيه قد دانت إلى الملكيات الثرية في الخليج العربي التي تخلّصت من منافسة الجمهوريات لها مع تراجع أدوار مصر، وغياب العراق وليبيا، وخروج سوريا، وتردد الأردن.

ثانياً: تفكك نموذج الدول المركزية في الدول العربية وبروز تمركزات مذهبية ومنطقية وعرقية وإثنية، فضلاً عن النزاعات المناطقية، وبذلك وضعت الشعوب العربية أمام امتحان جديد وقاسٍ.. وهو كيفية بناء هويات الوطنية جامعة، ومن ثم القومية، في حمأة التحولات العنيفة والتحديات التي تواجهها في الوقت الراهن؛ والأهم في هذه المرحلة كيفية الحفاظ على السلم الأهلي وقيم العيش المشترك، وأخلاقيات الجِوار المهددة من دول وقِوى: "الثورة المضادة" الساعية لنشر الفوضى لإثبات عجز القوى الجديدة عن إدارة هذه الدول وانعدام البديل؛ وأيضاً ممارسات المجموعات الإسلامية المتطرفة كتنظيم "الدولة الإسلامية"؛ وكذلك المشاريع التفتيتية للقوى الأجنبية.

ثالثاً: بات مخطط التقسيم على قاعدة صدوع عرقية وإثنية وطائفية ومذهبية، يجد آذاناً صاغية لدى دوائر عديدة داخل وخارج المنطقة، ومنطق هؤلاء يقول "إذا كانت الدول العربية مهددة بالانهيار والفشل، أو سوف تقع تحت سيطرة المجموعات الإسلامية كتنظيم الدولة الإسلامية"، فلماذا لا تقسّم حماية للأقليات المهددة بالفناء وكذلك مصالحنا من هذه التهديد الوشيك!".

رابعاً: إن الدولة المركزية الإدماجية التي عرفها الوطن العربي- على عِلّاتها التي لا تحصى- في طريقها للزوال وسيبرز مكانها نموذج جديد بمعني الكلمة، ومن المحتمل أن نشهد اصصناع "كانتونات"، وربما هذه الكانتونات تكون "أشباه دول" بحيث تدير مصالحها في الأمن والدفاع والموارد بعيداً عن سلطات المركز التقليدية، كما أنها ستحتفظ بعلاقات مع الدول الكبرى والإقليمية، ربما تكون لها أهمية ومكانة من تلك التي كانت تحتلها الدول التابعة التي عرفها في الوطن العربي لعقود عديدة، وبعد الاستعمار، ويرجح أن يأخذ الصراع مستقبلاً طابعاً هويّاتيًّا.

خامساً: قد لا تكون نماذج الانفصال أو الفيدرالية أو الكونفيدرالية التقليدية معتبرة في الترتيبات الجديدة في الوطن العربي، وربما لا يكون سيناريو انفصال جنوب السودان2011، مناسباً للتكرار في ظل الأوضاع السائدة حاليًّا في قلب الوطن العربي حاليًّا، أي بروز دولة مستقلة تنضم إلى عِداد الدول المكونة للأمم المتحدة، ولكن قد تتشكل أنماط جديدة من المشاريع الانفصالية والتقسيمية: أكبر من الكونفيدراليات وأقل من الدول!

كذلك، في ظل تآكل نماذج الدولة المركزية في الوطن العربي، ونتيجة للتغييرات الجذرية في هذه المنطقة، فضلاً عن عوامل أخرى عديدة شديدة التعقيد، فإن نموذج "الكونفيدرالية" التقليدي -والذي يطرح من قبل بعض القوى الوطنية لمواجهة التحديات والأزمات في بعض البلدان- وهو يعطي الأقاليم صلاحيات واسعة في إدرارة شئونها المحلية مع احتفاظ الحكومات المركزية بصلاحيات حصرية في مجالات الأمن والخارجية وفي إدارة الموارد الطبيعية إلى حد ما، قد لا يكون معتبراً أيضاً حالياً أو مستقبلاً -خاصة مع التفكك ووجود مشاريع تدفع باتجاه خيار التقسيم والكانتونات- وذلك نظراً للخبرة التاريخية في علاقة المركز بالأطراف داخل الدولة الوطنية والتي أتسمت عموماً بالهيمنة والوصاية والقمع.

الآن باتت الأقليات ترى أن الفرصة قد سنحت لها للتخلص من ذلك الإرث التاريخي، وأن علاقاتها الجديدة مع "الخارج" سوف تغنيها عن العودة مرة أخرى إلى تجارب القبضة المركزية، التي لا تحقق لها مصالحها وطموحاتها الذاتية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد