ليس لأجل نظام الأسد، ولا لذات الأسد، زحفت روسيا بطائراتها وصواريخها إلى سوريا، لكن بين زوال النظام وبقائه مصالح كثيرة جداً، هي بحجمها كفيلة أن تدفع روسيا إلى خوض غمار المعركة، خلال عقود طويلة هيمنت الولايات المتحدة الأميركية على المنطقة، وبقي التناغم والانسجام مع السياسات الأميركية في المنطقة ضابطاً وناظماً لشكل سياسات دول المنطقة وعلاقاتها فيما بينها.
ظروف الحرب على الإرهاب الذي اصطنعته الولايات المتحدة الأميركية ثم تزعمت العالم في الحرب عليه، زاد من الهيمنة الأميركية في المنطقة، وفي طريق ذلك كانت الحرب على أفغانستان ثم غزو العراق وإسقاط الرئيس العراقي صدام حسين.
هذه الظروف أوجدت هلعاً لدى الأنظمة العربية التي رأت في رضى واشنطن الضامن الوحيد لاستمرار الحكم وبقاء السلطان على العرش، ناهيك عن فزاعة حقوق الإنسان والديمقراطية التي أحسنت الولايات المتحدة الأميركية استخدامها، خاصة أنها شكلت سيفاً مسلطاً على رقاب الأنظمة الحاكمة التي لا تريدها واشنطن ديمقراطية ولا تريدها تستند إلى شرعية الصندوق حتى يدوم الولاء وتدوم الطاعة للبيت الأبيض التي تشكل مصدر شرعية الأنظمة.
غابت روسيا في تلك الظروف عن التأثير الحقيقي في المنطقة التي شكلت تاريخيًّا ساحة للتنافس العالمي، واشتد التنافس بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، خاصة بعد الحرب العالمة الثانية، ولما أوشك النظام السوري على الانهيار ورأى في الروس مخلصاً جاءت اللحظة التي تراها موسكو مناسبة لدخول حلبة الهيمنة والنفوذ وفرصة لتحقيق أطماع استعمارية قديمة، أهمها تشكيل مجال حيوي يخدم الوصول إلى مياه الخليج العربي، وهو ما حال الاستعمار الأوروبي والدولة العثمانية دون وصول روسيا إليها في القرن الماضي.
هي الدول لا تعبد إلا مصالحها، ولا تركع إلا لمن هو أقوى منها، ومصالح القيصر هذه المرة لا تتأتى إلا عبر جماجم أطفال سوريا، وهي في ذلك تقوم بدور أخلاقي لها أن تتفاخر به أمام العالم، فقد قدمت لمحاربة الإرهاب وبإذن وطلب من الدولة السورية، إذاً فقد امتلكت شرعية الصاروخ الذي دمر حلب، رجالها وأطفالها وحرائرها وبيوتها؛ لذلك سجلت الجامعة العربية غياباً مستمراً عن حضرة الحرب في سوريا، كما غاب عن مسرح القتل والدمار الشجب والاستنكار العربي وهو السلاح الوحيد الذي تسلحت به الأنظمة على مدار عقود طويلة ديست فيها الكرامة العربية وسحقت فيها كثير من الجماجم والرؤوس.
لذلك كان الروس في مأمن وليس للعرب في ميزانهم أي اعتبار، لكن حين تقترب دولة عظمى بحجم روسيا من دولة عربية هي في المعادلة الصفرية بين الدول من حيث القوة والتأثير والنفوذ، فإضافة إلى المصالح الاقتصادية قد يكون ذلك لتجميل صورة الدولة حين تغرق في مستنقع الحرب القذرة، كما هو حال روسيا التي لا ينافسها أحد في قبح وجهها.
الطائرات الحربية الروسية تهدي أطفال ونساء وشيوخ سوريا هدايا فريدة من نوعها من القنبلة إلى الصارخ، إلى الدمار والتهجير وكل ما تعنيه سياسة الأرض المحروقة، في مقابل ذلك يحاول بعض العرب التودد إلى موسكو دون أن يترك إجرامها في سوريا أي أثر.
عبر التاريخ شكلت أحداث تاريخية كثيرة ظروفاً داعية إلى إنشاء التحالفات، أكثرها أهمية على الصيد العالمي ما نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وهو حلف وارسو عام 1955 بين دول أوروبا الشرقية في مقابل حلف شمال الأطلسي (الناتو) من أوروبا الغربية وتتزعمه الولايات المتحدة الأميركية.
لذلك ثمة من يرى في تفسير ذلك من ناحية موضوعية ومجردة، أن الدافع هو الخوف على الذات ومحاولة حصار الخطر الذي يُرعب كثيراً من الكيانات الضعيفة التي ترى في تقربها وتحالفها مع قوى كبرى نوع من الطمأنينة، خاصة في أجواء الرعب الكبير نتيجة التغيير المحتمل في الخريطة السياسية للعالم العربي.
وفي مثل هكذا ظروف تظهر الحاجة إلى إيجاد التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية، في ظل تعدد القوى والدول والجماعات المسيطرة في سوريا والعراق، دون أن يكون على حساب التعاطف والتأييد للشعب السوري، وليس تنكراً من الموقف العروبي الذي لم يعد يجمع الأمة إلا في التعاطف والتباكي والاستنكار.
من جانب آخر وفي رأيٍ يبدو أنه أكثر واقعية وليس موضوعية فقط، يرى بأن الحراك العربي تجاه روسيا لا يرتقي أبداً إلى مثل هكذا تحالفات يمكن أن تؤدي إلى الدفاع المشترك.
الدول الطامعة في سوريا والعراق واليمن تختلف فيما بينها على حجم المصالح التي سيجنيها كل طرف وعلى مناطق النفوذ لكن بنيانها مرصوص في معاداة العرب والمسلمين، وتجاه أي قوة ممكنة قادرة أن تحمي البلاد العربية من الهيمنة الغربية، فلا ينفع معها قربان ولا يجدي التوسل لحماية البيت، وإنْ كان لا مشكلة إنْ هُدم بيت الجار على رأس ساكنيه.
خاصة أن روسيا بدورها الجديد في المنطقة وحربها الضروس في روسيا ليس بديلاً ولا منافساً للدور الأميركي، حين قدرت واشنطن أن جُلَّ ما تقوم به روسيا يخدم في نهاية المطاف الأجندة الأميركية، وفي اللحظة التي تقرر فيها الولايات المتحدة الأميركية إنهاء دور روسيا لن تستطيع الأخيرة الاستمرار أو لا تملك حتى أدوات المناورة السياسية مع واشنطن في المنطقة.
اليوم تبدو حالة التشظي العربي أكثر وضوحاً، والمواجهة الحقيقية التي تستعد الأنظمة لمواجهتها عنوانها الحفاظ على النظام والبقاء، سواء تحقق هذا المطلب العزيز عبر الطريق إلى موسكو أم عبر الطريق إلى تل أبيب، التحالفات والمقاربات القائمة في المنطقة لا تخدم أبداً المسار الديمقراطي التي أرادته الشعوب العربية، بل في أغلبها تقع في خانة العداء، لذلك المسار الذي يهدد العروش العربية ولا يخدم المسارات الأميركية ولا يبدو أنها ستضع حدًّا للغارات الروسية.
تختصر مقولة شكيب أرسلان واقع عالمنا العربي، فيقول ثاقب النظر.. لقد أصبح الفساد إلى حد أن أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون، وإن المسلم إذا أراد أن يخدم ملّته أو وطنه وقد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه، إذ يُحتمل أن يذهب هذا إلى الأجانب المحتلين فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها بعض الزلفى، وقد يكون أمله بها فارغاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.