عندما كتبت مقالي الأخير على "هافنغتون بوست عربي" والمعنون بـ"أزمة العقل العربي"، لم أكن أنوي أن أستمر في الكتابة في نفس الموضوع، أو في نفس النسق المتعلق بالأزمة الفكرية التي تسيطر على العالم العربي والإسلامي، لكن مع مرور الوقت لم أستطع التخلص من بقايا هذا الموضوع في عقلي، وأن أتفرغ إلى اهتماماتي العلمية، وفي هذا المقال أحاول أيضاً أن أتطرق إلى ما يعانيه العالم العربي من أزمة في البحث العلمي، والذي يعتبر التهافت التكنولوجي الذي يعانيه العرب والمسلمون، أحد مسببات الأزمة.
فاليوم، يلاحظ كل متتبع سيطرة التكنولوجيا على الرقاب، أصبحنا لا نستطيع العيش دونها، بل نزداد يوماً بعد يوم تعلقاً بالوسائل التكنولوجية، لكن المشكلة هي أنَّ تعلُّق العرب والمسلمين بهذه التكنولوجيا وهو تعلق ظاهري فقط، والتعلق الظاهر هذا أقصد به أن اهتماماتنا غالباً ما تنصب نحو الأمور السطحية التي تؤدي إلى التسلية فقط.
وهذا أمر خطير جدًّا حيث تحولت التكنولوجيا إلى عالم محدود لا يخرج على بعض من الوسائل للتسلية سيَّجنا بها أنفسنا وأفكارنا، واليوم كل من يدخل إلى العالم الأزرق "الفايسبوك" لن يجد إلا أموراً تافهة يتداول فيها العرب، أمور تعكس مدى الحالة المتردية والمرضية المستعجلة للفكر والعقل في العالم العربي والإسلامي.
إذاً ما تم مقارنة بمرارة طبعاً ما نتداوله نحن وما يتداوله الغرب والدول المتقدمة في الإنترنت سيجد فرقاً كبيراً وبَوْناً شاسعاً، يزيدني حزناً وحنقاً، ففي الغرب ستجد تصنيفاً لأكثر الروايات والكتب قراءة، كما أن هنالك أجهزة لوحية مخصصة للقراءة الإلكترونية، أما نحن فلن تجد من يقرأ في كتاب ورقي إلا نادراً.
في ذات يوم، وأنا أبحث عن بعض الكتب في إطار اهتماماتي الأكاديمية، وجدت موقعاً تابعاً للمكتبة الوطنية الفرنسية يخصص للباحث أقدم وأهم الكتب في جل المجالات العلمية، ويمكن تحميلها بكل سهولة على الحاسوب، فتفاجأتُ بذلك الموقع، وتحسرت على حالنا وقلت في نفسي:
"لم نستفد من هذا التقدم التكنولوجي ولم نوظفه في مجال البحث العلمي".
ما زال البحث العلمي بالعالم العربي ضئيلاً متأخراً، ولم يُستفد من هذا التقدم التكنولوجي، إن العلم ليس له حدود تحده ولا زوايا تضبطه على مستوى الإبداع والتفكير، وقد عرّف العالم الفزيائي آلبرت انشتاين لمفهوم "العلم" بأنه:" التفكير المنهجي الذي نوجهه نحو اكتشاف الارتباطات التي تنتظم وفقاً لما لها تجاربنا الحسية "(1)
لكن حسب بعض الباحثين، فإن مفهوم العلم يُساء استعماله سواء من خلال الكتابة حوله، أو من خلال تحديد معناه، ويبدو أن العلماء كذلك لا يستطيعون تحديد مفهوم العلم(2)، والسبب يرجع في كثرة المناهج المستعملة، والتي غالباً لا تتلاءم والعلم نفسه، إن عدم التحديد لمفهوم العلم سبب كافٍ لأزمة في البحث العلمي.
كما أن العالم العربي والإسلامي يعيش انتحاراً علميًّا وأزمة بحثية، بل إن التكنولوجيا التي ساعدت الغرب في تطوير البحث العلمي، لم تزد البحث العلمي في العالم العربي إلا تأخراً، ولم يبقَ لبحوثنا أي قيمة، سوى أوراق مكوّمة في خزانات الجامعات العربية.
ولقد سمعت بعض أساتذة الجامعة يرددون قولاً طريفاً لكنه في الصميم وهم يصفون بحوث الطلبة اليوم " إنهم يضيعون الأوراق والحبر بلا طائل"، رغم قساوة التعبير إلا أنه وصف دقيق لحالة واقعية يعانيها البحث العلمي.
إن أزمة البحث العلمي في العالم العربي خصوصاً في المغرب، مردها إلى عدم تواصل الجامعة مع المحيط، أي أن الجامعة لا تلعب أيَّ دور مؤثر في المحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فلو افترضنا جدلاً، أنه قد قام باحث بإنتاج بحث يحل مشكلاً سياسيًّا أو اقتصاديًّا أو علميًّا، فإنه سيتم التصفيق له، وتبجيل عمله، ثم وضع بحثه في رفوف الجامعة ليتسرب إليه القدم وتنتشر فوقه الأتربة، فلا تستفيد منه الهيئات المعنية في حل مشاكلها.
كما أن الأزمة ليست خارجية فحسب، بل تمتد إلى ما هو داخلي، أي ما يتعلق بمضمون البحث نفسه، الذي يسقط في النظرية التي في كثير من الأحوال لا تتلاءم والواقع، إذا تمَّ الإطلاع على مجموعة من البحوث العلمية في شتى المجالات، سيجد بحوثاً نظرية ليست ذات جدوى، أو بحوثاً حسب بعض الباحثين لا تتمتع بالأصالة، أو تسقط في السرقات العلمية المتكررة من بحث إلى آخر(3).
كما أن الإحجام عن الإبداع والتفكير، أمر سلبي يدمر البحث العلمي، ذلك أن استخدام العقل متطلب أساسي في مجال البحث العلمي، والانكباب نحو الإخلاص الأعمى للمنهج والمنطق، حتى أصبح الباحثون يتكلفون إرضاءً للمنهج والمنهجية، لكن هذا يتعارض مع عدم حدود العقل، نحن لا ننكر دور المنهج وأهميته القصوى، لكن ربما الباحثون لم يفهموا جيداً معنى استخدام المنهج واحترامه، ويبدو هذا جليًّا في بعض الأبحاث التي لا تجد فيها إلا المنهج حاضراً في المقدمة مُعْلَنًا عنه لكن بلا مضمون يوظف فيه المنهج، وهذا قتل واضح لملكة التفكير، يقول إمانويل كانط حول العقل ما يلي:
"للعقل البشري، في نوع معارفه، هذا القدر الخاص: أن يكون مرهَقاً بأسئلة لا يمكنه ردّها، لأنها مفروضة عليه بطبيعة العقل نفسه؛ ولا يمكن أيضاً أن يجيب عنها، لأنها تتخطى كليًّا قدرة العقل البشري"(4).
وهناك أمر آخر مؤثر في مجال البحث العلمي هو الإنفاق الضئيل للعرب على البحث العلمي، فحسب بعض الدراسات، إن العالم، ينفق حوالي 2.1 بالمائة من مجمل دخله الوطني على مجالات البحث العلمي، أي ما يساوي حوالي 536 بليون دولار. ويعمل في مؤسسات البحث العلمي في العالم ما يقارب 3.4 مليون باحث، أي بمعدل 1.3 باحث لكل ألف من القوى العاملة …، وهذا المبلغ ليس لأمة العرب فيه سوى 535 مليون دولار.(5)
إن هذا رقم خطير جدا، ولا يعي به العرب، وهم يمشون في غرور لا ينظرون إلا للتسلية في المقاهي وعبر الأنترنيت، ولا يعيرون لهذه الأزمة أي إهتمام، وكأنهم في مجال البحث العلمي متقدمون، والوصف الذي أطلقه الدكتور علي الوردي على علماء القرن التاسع عشر، لينطبق على العرب اليوم، وقد جاء في هذا الوصف مايلي:
".. من الممكن اعتبار القرن التاسع عشر قرن الغرور العلمي. فكان العلماء في غرورهم فيه كمثل ذلك التلميذ الذي يدخل الجامعة لأول مرة فيندهش بما تعلّم في الصف الأول منها من مبادئ العلوم الحديثة ويأخده عند ذلك العجب والخيلاء إذ يتصور أنه قد استوعب كل أسرار العلم وتمكن من حل جميع المشاكل.."(6).
إن حال العرب لن يتغير إلا بالعلم، والعلم، لا يستقيم حاله إلا بالبحث العلمي، واليوم الكل يحن إلى الماضي سواء القريب أو البعيد الذي كانت فيه للعرب والمسلمين بصمة في مجال العلم والإبداع والتفكير.
كتبت ذات يوم على صفحتي على موقع التواصل مذكرة من مذكراتي التي أعتزم نشرها، كنت أحن فيها إلى ماضي العرب والمسلمين، ولم أستطع إلا أن أقوم بمشاركتها في هذا المقال فهي تعبير صريح لما يخالجني في هذا الموضوع، وجاء فيها ما يلي:
"مقارنة الماضي بالحاضر هي مقابلة سيخسر فيها الحاضر لا محالة، فالحاضر مجرد بالوعة أفكار سينتهي بها المطاف إلى مزبلة التاريخ.. تطورت الأمور والأشياء بطريقة معكوسة، وانقلبت الصورة، بدأت معالم الدنيا ترنو إليه شيئاً فشيئاً، وأصبح عالمه الصغير بالاتساع، لكنه يسير نحو الانحدار، إلى الأزمة، يمشي على أربعة أرجل بصعوبة كبيرة فوق سطح المنزل ويقترب نحو الأشياء ليبدأ باكتشافها، هكذا بدات الصورة بالتكوين في لبه الصغير (مذكرات)".
لا بد للجامعات العربية أن تستيقظ من سباتها العميق، فلا ازدهار إلا بالعلم والعلماء، وهذا أمر من البديهيات التي أضحت ترفع كالشعارات في التلفزيون وفي الخطب والمنابر، دون أي تفعيل.
فالجدية في البحث العلمي متطلب أساسي، كما أن محاولة تثقيف الباحثين وتزويدهم بأهم الخبرات العملية والمنهجية أمر مهم جدًّا، فاليوم عندما تفتح أهم كتب المناهج المؤلفة في العالم العربي، تجدهم يتحدثون عن المناهج وتعريفاتها وخصائصها بطريقة نظرية جافة، فلا يستوعب الطالب هذه المناهج، وهكذا عندما يريد استعمالها، في أحد أبحاثه، لا تجده سوى قد أعلن عنها في مقدمة بحثه، وقد قدم لنا إحدى التعاريف النظرية التي استقاها من الكتب المؤلفة في المناهج، دون أي تطبيق عملي لها في بحثه، مع العلم أن المنهج لا يجب أن نعلن عنه بطريقة متكلف فيها، بل يجب أن يظهر للقارئ في جنبات البحث.
لذلك وجب التفكير مليًّا في التأليف حول المناهج بطريقة مختلفة وعملية أكثر، ومحاولة ملاءمة النظرية مع الواقع العلمي على مستوى تطبيق المنهج، فلا تتوحد العلوم بطبيعة الموضوع وإنما بالمنهج المستعمل، فما يميز المدخل العلمي عن أساليب المعرفة الأخرى الافتراضات الأساسية التي يرتكز عليها العلم(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– 1- ألبرت انشتاين، أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص. 252.
2- شافا فرانكفورت-ناشيماز ودايفيد ناشيماز، طرائف البحث في العلوم الاجتماعية، ترجمة: الدكتورة ليلى الطويل، بترا للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2004، ص 15
3-عبد الفتاح خضر، أزمة البحث العلمي في العالم العربي، سلسلة صادرة عن مكتب صلاح الحجيلان، الرياض، الطبعة الثانية، 1992، ص. 29-32
4- إمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي بيروت، غير مذكورة سنة الطبع، ص25
5- محسن الندوي، أزمة البحث العلمي في العالم العربي: الواقع والتحديات، مقال منشور في جريدة هبة بريس عبر الرابط التالي:
http://www.hibapress.com/details-5163.html
6- علي الوردي، خوارق اللاشعور أو أسرار الشخصية الناجحة، دار الوراق، لندن، 1996، ص. 21-20.
7- شافا فرانكفورت-ناشيماز ودايفيد ناشيماز، مرجع سابق، ص. 24
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.