هيكل : الموت وأشياء أخرى !

فإذا كنا قد اختلفنا مع "هيكل" نفسه في الطريقة التي تناول بها حياتنا كمصريين.. وتفضيله للحكم العسكري فينا، فكيف نستسيغ أن نختلف معه وهو ميت فنتاوله بالسب والشتم على نحو يماثل ما فعله وقال وسطر وأشار في حياته.. وبدلاً من التمادي في تناول أولئك الذين فارقوا حياتنا، كنت أتمنى أن ننظر في قيمة مضافة للانقلاب بشكل أصيل

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/18 الساعة 01:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/18 الساعة 01:28 بتوقيت غرينتش

مهما زار ملك الموت مناصرين للانقلاب، أو حتى أركانه الرئيسية، سيبقى لديّ رأي واضح من شقين: الأول عام.. يخص مفارقة الحياة والمغادرة النهائية، والثاني فني.. خاص بما يحدث في مصر منذ يوليو/تموز 2013م بشكل مباشر، أما الرأي الأخير: فبوضوح ما استمرار هذه الوفيات في صف الانقلاب ودوائره القريبة بخاصة الكُتّاب والفنانون، إلا إشارة إلى استمرار الانقلاب نفسه، وفشل مناهضيه ومقاوميه في التصدي له، وكان الحل لديهم -وما يزال- "الشماتة" فيمن تسقط ورقته من فوق شجرة الحياة، وإلا فراجع منذ ظهر اليوم طوفان الكلمات التي سوف "تنتحر" في ذكر مسالب الراحل محمد حسنين هيكل، عراب انقلابَيْنِ عسكريَّيْنِ في مصر، وهو ما لم يجتمع لمصري من قبله مهما كان، وندر أن يجتمع لشخص في العالم، بخاصة أن بين الانقلابَيْن واحداً وستين عاماً، وهلم جراً من مدحه للملك فاروق، ثم رضاه عما فعله جمال عبد الناصر بمصر والمصريين، وموالاته السادات في أول عصره ثم انقلابه عليه، مروراً من موقفه الرجراج من مبارك، نهاية بمعاداته الرئيس محمد مرسي والإخوان، ومساندته لقائد الانقلاب، طوفان تلك الكلمات سوف يتحول تدريجياً إلى نوع من الرضا عن الذات لدى المقهورين بفعل الانقلاب، وشعور غريب بأن الله ينتقم لهم!

أما الرأي الأول في أمر الموت فهو عقيدة لديَّ ستظل إلى أن ألقى الله في موعد لا يملك بشر تزييفه، وهو أمر أعتقد أنه يخص "التحضُّر" الذي هو رافد عظيم من روافد الإسلام، أو فلنقل يخص الإنسانية التي أوجزها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام" أي أن الفهم العذب الرقراق للحياة، وموقف كلٍّ منا منها أحد عوامل التثبيت على الرشاد والهدى في ديننا الحنيف، وتصورنا عن الخلاف وكيف يسقطه الموت إحدى أهم مواد الاحتكام، لدى كاتب هذه الكلمات، إلى تعمق وتغلغل جذور وأخضر هذا الدين داخل النفوس والقلوب والأرواح، وسندي في ذلك قول الرسول العظيم: "لا تسبوا الميت فهو يؤذي الحي ولا يصل إلى الميت"، وأيضاً:"من مات فقد أفضى إلى ما قدم"، والأحاديث كلها صحيحة تشير إلى أن الموت الذي يملك موعده وكنهه الله متى أتى حدود أحدنا، فيجب أن تترفع البشرية عن تناول مسالبه، لأن الحدث هذا سيزورنا قريباً، مهما امتدت حياتنا، وهو من أخطر الأمور في هذه الحياة لأنه ببساطة ينهيها تماماً، ولا يملك أحدنا من أمر نفسه شيئاً فيما بعده!

فإذا كنا قد اختلفنا مع "هيكل" نفسه في الطريقة التي تناول بها حياتنا كمصريين.. وتفضيله للحكم العسكري فينا، فكيف نستسيغ أن نختلف معه وهو ميت فنتاوله بالسب والشتم على نحو يماثل ما فعله وقال وسطر وأشار في حياته.. وبدلاً من التمادي في تناول أولئك الذين فارقوا حياتنا، كنت أتمنى أن ننظر في قيمة مضافة للانقلاب بشكل أصيل، ألا وهي ارتكانه بشكل رئيسي على كُتّاب بالتحديد ثم فنانين، أي أن أحد أبرز أركانه كان إعلاميين تفننوا في فتنة بسطاء المصريين ومتحامليهم ومثقفيهم بحيل وألاعيب عقلية وبصرية، وإن هؤلاء كانوا في مرحلة متقدمة من العمر حيناً، وشاء رب العزة أن يُتوفى عدد منهم في وقت مبكر فيما لم نسمع بوفاة عسكريين انقلابيين حتى اليوم.. كنتُ أتمنى أن يتوقف البعض لدى هذه الدلالة وأهميتها.. وإن بقي التمني طويلاً لأن الموت سيتدخل مرات قادمة..

أما عما يخص الراحل محمد حسنين هيكل، فإنه حصيلة قراءات متأنية في كتب ومقالات له واستماع لبرامج بعضها على الأقل طويل.. ولقائين مفتوحين له في معرض الكتاب بمدينة نصر في نهاية عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات، وكانت القاعة الرئيسية قد امتلأت عن آخرها، بل اضطر شباب من الجنسين لأن يجلسوا على السجاد أمام مقاعد الصف الأول، فيما امتلأ الدور العلوي تماماً، واعتذر الراحل سمير سرحان لمن لا يستطيعون دخول القاعة، أما "هيكل" فبدا متأنقاً في مظهره، واثقاً من نفسه، اعتذر هيكل وطلب السماح في تدخين السيجار الفاخر فأذن له أغلب الحضور واعترض قلة.. اعتذر هيكل منهم "لا استطيع الراحة إلا بها.. وبالتالي التحدث مع أصدقائي"، وفيما كان الجميع يتفق على التصفيق بحماسة عجيبة.. المختلف على أمر السيجارة قبل غيره كنت أسأل نفسي:
ـ كيف يستطيع مثله خطف الإعجاب من القلوب!

سألوه عن منع مبارك له من النشر بالصحف الحكومية فابتسم وقال في اعتزاز واضح بالنفس:
ـ تحاسبني كبريات دور النشر العالمية على دولار لكل كلمة في المقال حتى لو كانت من أو في أو عن.. ونفس المقال ينشر بنفس السعر في عدد من الدوريات في أكثر من بلد أجنبي ببريطانيا مثل أميركا..
وكأنه أمامي بوجهه الذي يتورد وابتسامته ومداعبته لجميلات الصف الأول مفترشات الأرض..
قرأتُ لـ"هيكل" وأعتقد أن من يقلل من شأنه في الكتابة مجاف للحقيقة وظالم له، وأعتقد بصحة مقولة "نجيب محفوظ":
ـ لو كتب هيكل الرواية لما كان لنا مقام في هذا البلد!

الرجل كان يكتب بقلم سلس فياض، ويحسن عرض فكرته أسلوب راق وتصور منبسط، مع مسحة الخيال الواضحة.. لكنه عن معنى تحركه الأهواء الشخصية، ومضمون ليس من كل ما سبق في شيء، أعرف وأعلم تماماً، ولكن أين من الشرفاء المخلصين من يستطيع أن يكتب بمثل هذا الاسلوب؟
كما أعرف أن "الجزيرة" توقفت عن تسجيل وبث حلقاتها الشهيرة معه لما لاحظت ملحوظات ليس هذا مقامها.

أما بيت القصيد في تصوري ليس عن هيكل هنا، حفاظاً عما سطرته في بداية المقال ومضمونه قبل أي شيء.. فإن الأمر ليخص قطاعاً من مثقفينا ومواطنينا الذين لا ينقصهم العقل، ولكن هؤلاء منتشرون -برأيي- على طول وطننا العربي الذي يقبع اليوم في ذيل الأمم من آسف، يعتقدون من الأمور ما كان معه هناء وراحة لهم، ولا يهمهم من الأمر غير سعادتهم المقرونة بالمال والبيوت والأولاد والنفوذ، بقاؤهم مرتاحين في الدنيا غاية مرادهم من رب العباد، ورفعتهم فيها أهم ما فيها.. وتهون من بعد حياة الجيران ولو كانوا ملايين، أقول إن هؤلاء كثر في الوطن العربي ودول العالم الأخير، الثالث على سبيل التبسط، لأن الغرب يحارب أمثالهم ويسعى إلى إثبات أن رقي الفرد من رقي المجتمع، هم موجودون هناك.. لكن آليات الحياة لا تسمح لهم مثلما يتيح المجال على وسعه لدينا..

رحمنا الله منهم ومن نوعياتهم.. وأقدرنا على الاستيعاب للأفكار والأشخاص فهو أول طريق البناء والمواجهة والنضج لو نعلم!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد