لاجئون وُلدنا، غُرباء عن ديارنا لا نعرف عنها إلا ما يرويه لنا العجائز من قصص مبتورة لم تكتمل، وحكايات مقطوعة لا تتصل أسانيدها، فأبطالها الذين نجوا من الموت في الحروب الأولى، فرقتهم الحياة في دروبها فلم يجتمعوا تحت سقف واحد منذ الهجرة.
الحقيقية أن لاجئين فلسطينيين كثيرين لا يعرفون عن قراهم ومدنهم الأصلية إلا القليل، وليس في مخيلتهم عنها صورة حقيقية لأنهم لم يشاهدوها، ولو مرة واحدة، إلا عبر أفواه المهجَّرين منها، أو من قصاصات مكتوبة في سطور منثورة على أوراق موسوعات التوثيق، فلم يحرثوا أرضها، ولم يتسامروا تحت ظل أشجارها، ولم يرتووا من ماء آبارها، ولا يعرفون طرقاتها ولا تقاسيمها، عدا أنهم رسموا لبلداتهم صورًا يجعل منها غالبًا المدينة الفاضلة.
ليس هذا مهمًّا، لأن الحياة فيها مهما كانت لن تكون أكثر سوءًا من حياة اللجوء في بلاد الأغراب التي لا نملك فيها ناقة ولا بعيرًا، والأسوأ من أن تكون لاجئًا هو أن تندمج وتتعايش مع مخيمات اللجوء، حتى تراها مكانًا بديلًا عن الوطن، فيبدأ الارتباط بالمكان زمانيًّا، ثم يتحول إلى ارتباط وجداني، عندما ترتبط الذكريات عبر سنين العمر بالمخيم، وتصبح غرفة الصفيح بين أزقة مخيم اللجوء الذي أنشئ لحماية المشردين من حرب دائرة مكان الإقامة الدائم، والدفاع عنها وبذل الغالي والنفيس في سبيلها قمة التضحية، وأسمى مراتب الفداء، ويصير المخيم مرادفًا للكينونة، ومرجعاً للماضي، ولسانًا للحاضر، ومشروع المستقبل، ويتضاءل مفهوم الوطن، بعظمته، ليصبح المخيم، بدُوره وشوارعه ومرافقه، اختزالاً مشوَّهًا للوطن الكبير! فيتعمق الانتماء للمخيم، وتتجذر محبته في القلب، ويصبح هو المقصود إذا ما تمتم الواحد: "موطني، موطني"، أو أنشد: "بلادي، بلادي، بلادي، لك حبي وفؤادي"، وتتقلب صور المخيم ومعالمه في العقل مع ألحان الأغنية، وينشغل اللاجئ بالحياة وتحسينها، والذات وتطويرها، وبغرفة الصفيح يرممها، ويطورها، ويزينها بناءً وأثاثًا على أرقى صورة، وقد يلوي لسانه بلهجة غير لهجة أجداده، ويقحم نفسه في عادات لم يألفها أسلافه، ويضعف الشعور بالحنين إلى أرض الأجداد، وتتلاشى وخزة الألم على ما سُرق من أرض، وهُتك من عرض، وتتوقف المطالبة بالعودة حقًّا مشروعًا، لتصبح مسألة قابلة للمساومة عليها والتفاوض بشأنها، وبعد حين، يمسي الحديث عن الوطن الكبير تخريفًا وهراءً، وتَذَكُّر القرى والبلدات دربًا من العبث، والعمل لأجل استعادتها إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وفرصة ثمينة لطمس صاحبها بين جدران السجن، ليتفرد بعدها الصهيوني المغتصب في الأرض، فيخفي معالمها العربية، ويفسد ذوقها الشرقي، ويدمر الآثار الطاعنة في السن، ويكسر هيبة المقدسات وشموخها.
والواجب على كل مواطن عربي وكل لاجئ فلسطيني أن يعلق على جدار بيته صورة لخارطة فلسطين المحتلة، وألا يدخر جهدًا في دراسة معالمها ومفاصلها الجغرافية والتاريخية، وإن استطاع أن يصل إلى المناطق المطلة على العمق المحتل فينظر إليه ويتنسم من عبيره فليفعل، وذلك حتى تتعلق القلوب بحب فلسطين، وينبض في الأفئدة ذكرها، ويشرق في النفوس أمل العودة إليها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.