أهل “حديثة” يسألون: بأي ذنب يُقتلون؟!

رغم كل هذه الأوضاع التي يصعب على العقل تصورها، فضلًا عن استحالة معايشتها، فإن أهالي مدينة حديثة ما زالت معنوياهم عالية، حتى صاروا مضرب المثل في الصمود، وسط انقسام العالم من حولهم بين عدو محارب

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/17 الساعة 03:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/17 الساعة 03:10 بتوقيت غرينتش

"عندما لا تجد أحداً يسمعك.. اكتب.. فالورقة كفيلة بأن تنصت لقلمك".. قالها وليم شكسبير.. وليس لدينا ما نقدمه سوى أن نكتب! نادينا كثيراً وكتبنا أكثر، أغيثوا أهلنا في حديثة.. فالجوع يقتلهم.. المرض يقتلهم.. الحر يقتلهم.. البرد يقتلهم.. الحرب تقتلهم.. الحصار يخنقهم.. وكل شيء من حولهم هو قاتلهم، والصامتون هم أول القتلة وآخرهم!

مدينة تدين لله بالإسلام، وتحب نبي السلام -صلى الله عليه وسلم- وتكرم الضيف وتساعد المسكين، مدينة العلماء والشعراء والمثقفين.. يقتلها الجوع صبراً! ويقتلها المحيطون بها قهراً!

مدينة النواعير، ومدينة "الدواوين" والمضائف العامرة، وعروس الفرات، هكذا كانت تسميتها عبر الأجيال، تلك المدينة الحالمة التي تحتضن الفرات وتقع غربي الأنبار، المدينة الطيبة المتميزة بأهلها الكرام الشجعان، والعزيزة الأبية العصية على أعداء العراق والإنسانية والحياة.

هي شقيقة ستالينغراد وغزة وصيدا وصور وكل المدن الأبية، التي رفضت الخنوع والخضوع للتسلط والهيمنة والعدوان، بفضل الصمود الأسطوري لأبنائها وأهلها المضحين البررة، الذين قدموا التضحيات والشهداء على مذبح الحرية، واستبسلوا في سبيل الدفاع عن مدينتهم التاريخية العريقة، ضد أشرس هجمة تواجهها بلادنا حالياً، ولم تنكسر عزيمتهم طيلة سنة ونصف تقريباً، قدموا خلالها -وما زالوا- الصمود الأسطوري وبطولات منقطعة النظير.. صمودها ليس حديثاً ولم يكن وليد هذه الأيام، فخلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003م إلى عام 2008م، لم تفلح القوات الأميركية بالسيطرة على المدينة، ما دفعها إلى التمركز خارجها، بعد أن ارتكبوا بحق أهلها أفظع المجازر، وكان لقصة "مجزرة حديثة" الأليمة صدى دولي وعالمي وثّقته وسائل الإعلام والسينما العالمية.

خلال هذه الفترة، سقطت مدن كثيرة في الأنبار، أبرزها الفلوجة والرمادي وهيت وعنة وراوة والبغدادي والقائم، بعد معارك عدة لم تدم سوى أيام وبعضها لساعات قليلة، أما مدينة حديثة فتصدت لأكثر من مئتين وستة وعشرين هجوماً للسيطرة على هذه المدينة انتهت جميعها بالفشل رغم الحصار الخانق الذي لم يؤثر على هذا الصمود العجيب.

نداءات كثيرة صدرت من داخل هذه المدينة وخارجها ولمدة شارفت على السنتين، تنذر بحدوث كارثة إنسانية ما لم يُفك الحصار عنها ويتم إيصال المواد الغذائية والطبية لساكنيها، فهي تذكِّر الجميع بمجاعات الصومال وحصار المدن السورية بل أكثر من ذلك، لأن حصارها وجوعها يقابل بحرب وهجمات شرسة على سواترها الأبية، ما جعلها مكلومة متألمة حزينة، لأنها فقدت الكثير من أبنائها وأهلها، فيما تيبست وماتت أراضيها، وجف نهرها، ودمرت بساتينها.. بعد أن كانت جنة زاهية.

ما زالت مدينة حديثة الغربية بمحافظة الأنبار الصامدة منسية، دون صدى لمعاناتها، فشبابها حماة الديار يقفون الآن على سواترها وبطونهم خاوية، وأهلها يعانون الجوع والكثير من العذابات، مدينة بلا طعام ولا وقود ولا حليب أطفال ولا دواء.. ناشدوا كثيراً ويناشدون الآن الجهات الحكومية والرسيمة والعالمية بعملية أمنية عاجلة لفك الحصار وحماية المدينة، لكنها.. إما تواجه بتعزيزات ضعيفة خجولة أو تقابل بصمت مخجل ومرعب في ذات الوقت، كان آخرها الصمت الإعلامي تجاه كل ما يحدث ويجري لهذه المدينة الخالدة.

أمامي الآن حالتان من الصمت، الحالة الأولى، الصمت الأسطوري وأبطالها أهل حديثة بحلمهم وصبرهم، فالصمت هنا آية من آيات الجمال الروحي، لا يفهمه إلا الأحرار، ولا يتحمله إلا أصحاب الشهامة، فهي الابتسامة لرجل شهم عجز عن التعبير أو طفل بريء عجز عن الصراخ، أو امرأة مستورة تخاف أن يخرج صوتها بين الغرباء.. وهذا جواب لمن يسأل، لماذا الإعلام داخل مدينة حديثة ضعيف ولا نشاهد سوى صور الصمود ولا نسمع سوى أهازيج وأناشيد الانتصارات بصد الهجمات ودرء الخطر؟!

والحالة الثانية، صمت المجرمين.. وهي عندما يكون الصمت جريمة! فالحياد على موتك يا حديثة جريمة.. والسكوت على ظلمك جريمة.. والاعتماد على صمودك "وحيدة" جريمة.. فأين أنتم يا معشر الكلام والمتكلمين؟ ما الذنب الذي ارتكبته مدينتنا دون أن يخبرنا التاريخ عنه؟! هل ذنبها أنها تنشد الخير والسلام والحب لكل الناس؟! وتفتح أبواب بيوتها لكل الزائرين لها ومن كل محافظات العراق كما فعلت واستضافت من لجأ إليها واحتمى بها! نعم، إنها مذنبة.. وذنبها أنها كريمة وجميلة مثل "يوسف" وكل من حولها خانها مثل أخوته..

رغم كل هذه الأوضاع التي يصعب على العقل تصورها، فضلًا عن استحالة معايشتها، فإن أهالي مدينة حديثة ما زالت معنوياهم عالية، حتى صاروا مضرب المثل في الصمود، وسط انقسام العالم من حولهم بين عدو محارب، أو قريب متواطئ بصمته، أو صديق عاجز، أو حبيب حزين! فيا مدينتي الغالية اصبري وصابري، واصمدي، وقاتلي كل من يريد لأهلك الشر والفناء، فإن الشدائد لا تدوم، وإن الله يجريها ابتلاءً وامتحاناً لك، وللصامتين على محاولة قتلك!.. أقول قولي هذا وأستغفر الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد