ما أشبه البارحة باليوم، الداخل المهمش "القصرين" نموذجًا ومن بعده بقية "الهامش غير الجغرافي" ينتفض طلبًا لحقوق منسية منذ عقود ورفضًا لواقع اقتصادي واجتماعي مرير يعيش تحت وطأته في انتظار تنمية وتشغيل وُعد بها وطال انتظاره لها لم تأتِ، والمركز منشغل عن هذا الحراك الاجتماعي لا يوليه الاهتمام الذي يستحق.
السؤال لماذا بعد خمس سنوات من الثورة وعقود منذ الاستقلال ما تزال رسائل الهامش عاجزة عن بلوغ الحكومات المتعاقبة والتأثير في سياسات الدولة؟ هل المشكل في الباثِّ أم في الرسالة أم في المتقبل أو في قناة التواصل؟
تتكون عملية التواصل، حسب المثال النظري الذي قدمه الباحث الأميركي كولاي (Cooley) من القاعدة، "base" وهو مصدر الرسالة وهو في حالنا هذه الهامش، والهامش هنا ليس جغرافيًّا ينقسم إلى داخل مقابل ساحل وإنما هامش غير جغرافي كما بيَّن ذلك الباحث زهير إسماعيل في مقال بعنوان "الانقسام الاجتماعي حقيقة الحقائق".
أما المتقبِل وهو المتسلم للرسالة، فهو المركز في مقابل الهامش، وتمثله في تعبيراته السياسية "الحكومة" والنظام الساسي برمته. وأما القناة وهي الفضاء أو الأداة المستعملة لتحميل الرسالة التي تتمثل أساسًا هنا في نداء استغاثة وصرخة غضب طلبًا للكرامة والتنمية والتشغيل وباختصار طالبا بالالتحاق بالمركز.
ويمكن اعتبار القناة وهي "احتجاجات الهامش" ولو اختلفت أشكالها وتعبيراتها على امتداد عقود منذ الاستقلال إلى يومنا هذا تتصاعد شدتها وتسكن، كأحداث الخبز 1984 وأحداث الحوض المنجمي ثم الثورة في 2011, والاحتجاجات الاجتماعية على مدى السنوات الخمس الأخيرة.
وسواء اتخذت قناة التواصل هيئة الاحتجاجات في مظاهرات أو اعتصامات أو حتى طلبات بسحب الجنسية والخروج من دائرة المواطنة الصورية للالتحاق بالجزائر أو حتى في تشكُّل نمط للعيش والسلوك يتحدى قوانين الدولة ليصبح التهريب مهنة والاقتصاد الموازي هو الاقتصاد الرسمي في الهامش، فإنها تبقى وسيلة الهامش الوحيدة لتحميل رسائله.
المقوم الأخير لعملية التواصل حسب "كولاي" هو الإطار المرجعي المشترك إذ تمتلك القاعدة أو الـ "base"، والمتقبِل سواء كانا أشخاصا أو جماعات أومؤسسات نظاما من الآراء والقيم والمعتقدات والمعارف.
وهو خلفية معرفية تساعد القاعدة والمتقبِل على إعطاء مدلول للرسالة. ويعتبر الإطار المرجعي خبرات مكتسبة يحصل عليها الفرد من محيطه الاجتماعي والثقافي والحضاري. فإذا استعملت كل من القاعدة والمتقبِل إطارًا مرجعيًّا مشتركًا يسهل التواصل، وعكس ذلك يكون عائقًا من عوائق التواصل.
ن الانقسام الاجتماعي الحاد في المجتمع التونسي أمر واقع رغم ما يروج له من وحدة النسيج الاجتماعي. ولعل أبرز مثال لذلك الاختلاف حول الفصل الأول للدستور والذي حسم بتوافق سياسي لم يغير في المواقف الاجتماعية من المسألة كثيرا، فكلما تعلق الأمر بإصدار موقف قيمي من قضية معينة تدور في فلك الهوية، إلا وتضاربت المواقف وبرزت الثنائية.
ثنائية تعكس عمق الانقسام بين الهامش والمركز. الموقع ضمن المجموعة الاجتماعية يحدد زاوية النظر والموقف كذلك فيكفي أن ننتقل بين ضواحي العاصمة، إذ لا حاجة للانتقال للمناطق الداخلية لنلاحظ هذا الانقسام الاجتماعي، فالمنظومة القيمية والفكرية والسلوكية ليست نفسها، وإن كانت لها بعض المشتركات لمن يمثلون المركز من الأحياء الراقية للضواحي كقمرت مثلًا ولمن يمثلون الهامش في الأحياء الشعبية كحي التضامن ودوار هيشر.
وللأسف ارتبطت صورة الهامش في المسكوت عنه لدى العقل الجمعي للمركز في أغلب الأحيان بالنازح القادم من الأرياف "وراء البلايك" أو ذاك الهمجي الخارج عن دائرة التحضر "الجبري" و"القعر"، وهو تصور تعكسه حتى الشخصيات الممثلة للهامش في الأعمال التلفزيونية مسلسلات كانت أو أفلامًا، وهو ما ينعكس في قراءة وفك رموز احتجاجات الهامش، أو بلغة أخرى رسالته التي تؤول بصفة سلبية في أغلب الأحيان فيغيب التضامن معها ودعمها أو يكاد يكون ضعيفًا.
الحكومات والنظام السياسي برمته إذًا تمثل أساس المركز، فتتقاطع في الفعل السياسي المنظم لعلاقاته وتفاعلاته في إطار الدولة مصالح المال والنفوذ وتتكامل، فيصبح بذلك اهتمامه منصبًّا في حماية مجال فعله وتدعيم شبكة المستفيدين منه وحماية مصالحهم.
وبهذا الفهم وعلى أساس هذه القاعدة يبدو أنه يتم فك رموز رسائل الهامش من احتجاجات إذ تتعامل معها الحكومات المتتالية بعقلية "إطفاء الحريق" الذي يهدد مصالحها ويهز استقرارها فقط وإلا كيف يتم تفسير أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية الموجهة للهامش لا تسعى لنقله من موقع الهامش إلى موقع المركز أو حتى تقليص البون الشاسع بينهما، بل فقط لسكان الأصوات الغاضبة المطالبة بحقوقها في المواطنة وبتطبيق واجبات الدولة تجاهها؟
لماذا توجه جهود التنمية والمساعدات لقطاعات المستفيد الأول منها هو صفوة المركز في حين أن إمكانيات التنمية وآلياتها متوفرة في الهامش فقط لو تتاح له إمكانية ممارسة الحكم المحلي والديمقراطية التشاركية وتسخر له جهود المجموعة الوطنية ونفس قيمة الموارد المسخرة للمركز.
المشكل في عملية التواصل بين الهامش في تونس والمركز يكمن أساسًا في الإطار المرجعي المشترك، وفي المتقبل (الحكومة) باعتباره جزءًا من المركز يحافظ على مكتسبات ويدعمها ويتفاعل ضمن ذات الإطار المرجعي المشترك للمركز والمختلف تمامًا عن ذاك الخاص بالهامش. يبقى أيضًا من غير الموضوعي أن لا يتحمل الهامش مسؤوليته في تعطل عملية التواصل هذه، ذلك أن للهامش إمكانات متعددة للفعل لإنجاح مبتغاه، ولعل أوضحها كان ولا يزال الآلية الديمقراطية للانتخابات، إذ بيد الهامش أن يغير الماسكين بالسلطة السياسية على الأقل فيسلمها لمن يشاركونه نفس الإطار المرجعي المشترك ويدعمهم في عملية التغيير التي تتطلب صبرًا ووقتًا.
ولعل الانتخابات البلدية القادمة قد تمثل الخطوة الأولى للتغيير بالنسبة للهامش فقط عليه أن يتسلح بالإرادة ويدخل حقل المشاركة المواطنية ويستعد لتحويل احتجاجاته التقليدية إلى طريقة عمل مواطني عبر صناديق الاقتراع فهي أقوى طرق الاحتجاج وأنجع طرق التواصل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.