الخيال وسحره من رسالة “التوابع والزوابع” لابن شهيد

لقد استطاع ابن شهيد ان ينسج خيوط تلك القصة ببراعة منقطعة النظير وأن يحقق لنفسه عالماً من الخيال ما لم يستطع تحقيقه في عالم الواقع.. إذ بدأ بإنشاد شعره وإلقاء نثره أمام توابع كبار الشعراء من العربية فنال إجازتهم

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/12 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/12 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

هناك بعض الأعمال الأدبية التي حين تطالعها لا ينتابك شعور الضجر؛ لأن الخيال يلهب العقل ويثير الروح ومن هذه الأعمال التي حلَّقت فوق الخيال "رسالة التوابع والزوابع" لابن شهيد، العمل الذي امتزج فيه الخيال بالواقع، بل ربما التقط فيه الخيال مفردات من الواقع..

مؤلف الرسالة هو أبوعامر أحمد بن أبي مروان عبدالملك بن مروان، المعروف بابن شهيد الأندلسي، وهي رسالة تندرج تحت قائمة الجنس القصصي والهدف من رسالة التوابع والزوابع، هو التعرض لخصومه وحسَّاده، وبذلك يكون الطعن بأنداده هو الهدف الذي سعى إليه من خلال كتابه هذا.. والرسالة عبارة عن "رحلة خيالية في عالم الجن يحكي فيها ابن شهيد كيفية التقائه بشياطين الشعراء السابقين من توابع "مفرد تابع أو تابعة أي ما يتبع الإنسان من الجن" والزوابع جمع زوبعة، اسم شيطان أو اسم رئيس من الجن، وتجري بينه وبينهم مناظرات ومساجلات أدبية، وكذلك بينه وبين ما يجده من مخلوقات في عالمهم، وهو ينتصر في هذه المساجلات الأدبية دائما.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، كيف استطاع ابن شهيد إيصال فكرته إلى المتلقي؟

لقد استطاع ابن شهيد إيصال فكرته للمتلقي من خلال تآلف التركيب، ووضوح اللفظ في رواية أحداث القصة، واضعا قضية التوصيل والتأثير في المتلقي عن طريق السهولة والوضوح لأن الغموض في الرواية والغريب من الألفاظ يقللان من قضية التأثير، ويفقدان النص الأدبي جمالية التوصيل لأنه يصبح حكرا على طبقة محدّدة من المجتمع.

وقد قسم ابن شهيد الرسالة إلى مدخل وأربعة فصول: يتحدث في مدخل رسالته إلى "ابن حزم" الذي كان صديقا له، فيذكر كيف تعلم، ونبض له عرق فهم، بقليل من المطالعة، ثم ينتقل إلى خبر حبيب له مات، فأخذ في رثائه، فإذا بجني اسمه زهير بن نمير يتصور له، ويلقي إليه بنتحه الشعر، رغبة في اصطفائه، كما تصطفي التوابع خلانها، فتتأكد بينهما الصحبة، فأصبح كلما سدت بوجهه مذاهب الكلام، يدعو تابعه بأبيات لقنها عنه، فيمثل له ويوحي إليه.

الفصل الأول: يسأل فيه صاحبه أن يأخذه إلى أرض التوابع، فيطير به حتى ينزل وادي الأرواح، فيزور صاحب امرئ القيس، وطرفه، ثم يتحول إلى توابع شعراء العباسيين كأبي تمام والمتنبي.. وفي زياراته هذه، يساجل الشعراء ويعارضهم ويذاكرهم، ويأخذ الإجازة منهم.

الفصل الثاني: يرغب في لقاء الكتاب، فيأخذه الجني "زهير" إلى الجاحظ وعبدالحميد الكاتب، فيأخذان عليه شغفه بالسجع، فيدافع عن نفسه، فيجد من صاحب عبدالحميد الكاتب عنفا، فيقابله بالطعن على بداوة أسلوبه، فيبتسم له ويباسطه.

الفصل الثالث: يحضر وتابعه مجلس أدب من مجالس الجن، فيدور الكلام على بيت للنابغة، تداول الشعراء معناه من بعده، ولم يلحقوه.

أما الفصل الرابع والجني زهير في أرض التوابع والزوابع فيشرفان على نار لحمير الجن وبغالهم، وقد وقع خلاف بينهما في شعرين لحمار وبغل من عشاقه..

يبدأ النص من قوله "وحضرت" فهو نص متبوع لما قبله من الأحداث حيث يصور الشاعر حضوره لمجالس الشعراء وتناولهم لمعاني الشعر والحكم على أقوالهم ويبين الكاتب في نصه رؤية جديدة وهي أن للكتاب شياطين، ويعتمد المنهج التاريخي حيث يبدأ بالجاحظ شيخ الأدباء، ويحاور عبد الحميد وبديع الزمان الهمذاني، ويساجلهم في قضايا تتصل بالسجع والمزاوجة، وتتصل بقضايا الأساليب والبيان، ويخلص إلى انتزاع شهادات بإجازاتهم له وتفوقه عليهم.

من أهم سمات أسلوبه القصصي الخيال، فخياله خلاق تحفه طائفة من التصوير الدقيق والتشويق أداة من أدواته التي أجادها، بجانب الاستطراد الذي يقتضيه السياق القصصي. فضلا عن ظاهرتي الحوار الداخلي والمباشر.

لقد استوحى ابن شهيد موضوع "التوابع والزوابع" كما "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري من قصة الإسراء والمعراج التي تحكي قصة صعود سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء إلى السموات السبع على ظهر البراق، بصحبة سيدنا جبريل عليه السلام، حيث رأى عالمًا آخر غير عالمنا الذي نعيش فيه.

كذلك قام ابن شهيد برحلة خيالية إلى أرض الجن، وبدأ حديثه بقصة حضوره مجلس من مجالس الجن فذكر ما تناولته الشعراء من المعاني.. ومن زاد فأحسن ومن قصر، وقد وجه رسالته إلى من أسماه أبي بكر الذي تعجب من نبوغه، وعد كلامه في النظم والنثر ليس في قدرة الإنس وأن له تابعًا وزابعًا ينجدانه، وقد ذكر ابن شهيد لأبي بكر كيف تلقى تعليمه، وحكى له قصة مفادها أنه ذات يوم بينما هو في البستان يرثي حبيبًا له مات إذ عجز فجأة عن استكمال ما هو بصدده من قول الشعر، فظهر له فارس اسمه زهير بن نمير من أشجع الجن، وأكمل له، ورغب إليه في اصطفائه ومصاحبته، فقبل ابن شهيد هذه الصحبة.

وكان ابن شهيد فيما بعد كلما عجز عن تكملة أبيات ينظمها أنشد الأبيات فيظهر له زهير الجني فيعينه ويمده فينطق ويكمل ما هو بصدده.
بعد ذلك ينتقل ابن شهيد إلى صلب الموضوع، فبعد أن تأكدت الصحبة بين الأشجعي الإنسي والأشجعي الجني تذاكرا يوما أخبار الشعراء والخطباء.

وتساءل ابن شهيد إن كان في الإمكان أن يلتقيا، فذهب زهير يستأذن شيخهم، وبعد أن تمت الموافقة انطلق ابن شهيد وتابعه زهير يقطعان الجو والدوُّ حتى وصلا إلى أرض الجن، وطاف زهير بابن شهيد على تابع امرئ القيس، وتابع طرفة بن العبد، وتابع قيس بن الخطيم من شعراء الجاهلية، وتابع أبي تمام، وتابع البحتري، وتابع أبي نواس، وتابع أبي الطيب، وتابع المتنبي، فيسمع ابن شهيد من توابع الشعراء أحيانا ويطلب التوابع منه أن ينشد من شعره أحيانا أُخرى، وفي كلتا الحالتين يعجب هؤلاء بشعر ابن شهيد ويشيدون به ثم يجيزونه جميعا.

ثم يطلب ابن شهيد من تابعه أن يطوف على توابع بعض الكتاب حين ذكر له أنهم اجتمعوا له في مكان واحد هو مرج دهمان وكان من بينهم تابع الجاحظ وتابع عبدالحميد الكاتب فأولهما أعجب بشعر ابن شهيد وأخذ عليه إكثاره في السجع، وثانيهما تدخل في النقاش وأكد أن السجع طبع ابن شهيد، وأن ما ذكره من المماثلة تكلف، فدافع ابن شهيد عن نفسه.. إلى أن ينتقل ابن شهيد وتابعه إلى أحد مجالس الجن النقدية التي احتد فيها النقاش بين من تفوق ومن قصر من الشعراء في المعنى الواحد.. ولأبي عامر في هذا المجلس لمحات نقدية مهمة.

ويلاحظ امتيازه بقوة الذاكرة وسرعة البديهة، وقد شعر أن الناس لا يقدرون عبقريته إذ تفشى الجهل فكان دهره دهر الأراذل.. كما كثر خصومه لذا كان لزاما عليه أن يبني مجده بجهوده ليثبت جدارته وتفوقه.

كما يظهر في النص مصادر الرسالة عند ابن شهيد ومنها الإلهام، حيث تعد قضية شياطين الشعراء علامة بارزة ظهرت عند عدد من شعراء العربية وادعى هؤلاء أن الشياطين تلهمهم الشعر فيخرج على ألسنتهم.. وعددوا بعض شياطين الشعراء، فشيطان امرئ القيس لافظ بن لاحظ، وشيطان عبيد بن الأبرص هبيد، وشيطان النابغة هادر بن مارد.

وقد أراد أبو عامر أن يوظف هذه القضية في الدفاع عن نفسه أمام خصومه الذين يتهمونه بالتقصير.. وتوسع في هذه القضية عندما جمع للنقاد والأدباء والشعراء شياطين يحاورهم وينال منهم في آخر المطاف الإجازة ويحقق الانتصار في القضية التي يطرحها.

لقد استطاع ابن شهيد أن يجعل لشخصيته نوعاً من الكبرياء في رحلته، فهو يمثّل شخصيّة البطل في هذه القصّة، كما يمثلها في أغلب قصصه، فهو البطل والرّاوي ولم يسلمها لتابعه ولم يسند له أي دور سوى التعريف بالأماكن التي يريد هو الذهاب إليه والتوابع الذين يريد الالتقاء بهم، كما أن شخصيّة زُهير جاءت لتكون ظلا لشخصيّة ابن شهيد إذ ترافقه أينما توجّه، وحيثما حلّ وتسهم في إغناء مقدّمة القصّة من خلال الحوار وقد أجاد في رسم صورة التوابع الذين التقاهم في أرض الجن كما أجاد في تصوير أماكن التوابع.

واستطاع ابن شهيد ان ينسج خيوط تلك القصة ببراعة منقطعة النظير وأن يحقق لنفسه عالماً من الخيال ما لم يستطع تحقيقه في عالم الواقع.. إذ بدأ بإنشاد شعره وإلقاء نثره أمام توابع كبار الشعراء من العربية فنال إجازتهم.. كما كان يتطلع من ورائها لإثبات أن المغرب العربي لا يقل شأنا عن المشرق في الإحاطة باللغة والتفنن في صروف الأدب، لقد كان لابن شهيد قصب السبق بإيراده لتلك القصة التي لم يسبقه إليها أحد. لقد اعتمد في بسط الحقائق على الأسلوب القصصي الذى لا يشعر القارئ بالرتابة والضجر، وجعل من العقل وهجا لا يخبو وحمى لا يستباح.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد