إن المتمعن في حال المسلمين والعرب على وجه الخصوص، يستنتج كم التخلف الفكري الذي سقط فيه العقل العربي والإسلامي، هذا السقوط يتجلى في كل ما ينتجه العرب، أو يمكن القول بصريح العبارة كل ما يقلده العرب من أفكار غربية.
هذا التخلف الفكري، يظهر بجلاء ولا يحتاج أي تبيان، فالمتمعن في شاشات التلفزيون العربية سيكتشف منذ نظرته الأولى مما يتم تقديمه من عروض خالية من الإبداع، لا يوجد إلا التقليد للأفكار الغربية في إنكار سافر للهوية، هذا التقليد في كثير من الأحيان يصل إلى تقليد أعمى دون أي اعتبار لخصوصية المتلقي، والطامة الكبرى هو ما تحوزه هذه البرامج من كم المشاهدات والتعاليق بدون استخدام للعقل في تمييز الأمور الصالحة من الطالحة، إننا نعيش عصرا -أكاد أجزم- لم نشهد مثله في الركوض وفي أزمة العقل، وما التلفزيون إلا انعكاس لحالة متردية يعيشها الإنسان العربي في تفكيره.
أتذكر جيدا وأنا جالس في أحد المقاهي، رمقت التلفاز ببصر جاحظ، أحد أساتذة الإخراج يتحدث عن جودة الأفلام المقدمة من الطلبة الأجانب بالمقارنة مع رداءة منتوج الطالب العربي، بدأت أفكر عن سبب هذا التخلف، إذا كان انحطاط البحث العلمي سببه الأساسي هو الإكراهات المادية واللوجيستيكية والمنهجية للجامعة، فما سبب تخلف الحضارة الإسلامية في الإبداع والتفكير عموما، لماذا أزمة العقل في العالم الإسلامي؟
بعد برهة من مشاهدتي المتكررة للتلفاز، تذكرت محاضرة كنت قد سمعتها للدكتور المهدي المنجرة حول "الدراسات المستقبلية"، والذي انطلق من مشكل أساسي في أزمة العقل في العالم الإسلامي وهو عدم وجود رؤية مستقبلية وتبصر في تدبير الحياة بمختلف مجالاتها.
فالنظرة العميقة في إحدى المكتبات العربية أو في معارض دور النشر، ستوصل إلى فرضية مهمة أننا نعيش أزمة الإبداع بكل مظاهرها، كتب مصطفة في المكتبات، أغلفة بلا روح فكرية ولا إبداعية، فقط كما قال الأستاذ رشيد مشقاقة وهو يصف البحث العلمي في القانون والكتب المنشورة في هذا الباب إلى "إشكالية الغلاف في القانون المغربي"، عبارة تحمل الكثير من معاني الحسرة على البحث العلمي والكتاب عموما، والذي لم نتنافس في إنتاجه إلا في مجال الغلاف وكتابة اسم الكاتب قبل عنوان الكتاب أو العكس من ذلك.
زد على ذلك، ما يعيشه الشاب العربي من نفور القراءة، ولا يبحث إلا عن التحصيل الجاف في المدارس والجامعات، حتى تحولت الجامعات والمدارس إلى أماكن تخرج آلات تستظهر ما تم تلقينه لها، دون أي مهارات الاشتغال، أو ملكات الفكر والعقل.
إن أهم الأسباب لهذه الأزمة الفكرية في العالم الإسلامي-العربي، هو تأثير النسق التكنولوجي في العقل العربي الإسلامي، أصبحت التكنولوجيا مدمرة للإبداع لا مطورة له، إن التهافت التكنولوجي أدخل العالم الإسلامي في مستنقع الرداءة والتفاهة.
هل العالم الإسلامي سيُخرج غدا عالما، مفكرا، باحثا، روائيا، من طينة الذين سبقوا؟
إن الابتعاد عن التقليد الفكري الأعمى سيؤدي إلى الإبداع في الفكر العربي والإسلامي، فاستهلاك الفكر السياسي الغربي بدون أي وعي مرجعي غير محبذ، فكثر بذلك المقلدون البؤساء كما سماهم الفيلسوف طه عبد الرحمان، إن "العِلمانية والعَلمانية والدَّهرانَّية" لا يمكن أن تكون مرجعا لنا، فالإسلام والشريعة الإسلامية ذات معطى شمولي.
وإن سبب اتِّباع الغرب لهذه الأفكار المتعلقة بفصل الدين عن كل مناحي الحياة أو كما سماها طه عبد الرحمان "بالدُّنيانية"(1) هو أن الدين المسيحي قد انحرف عن الطريق الصحيح، وأصبح مجرد دين سطحي خال من مضامينه التي جاء من أجلها كما أن الكنيسة تجبرت وظلمت باسم الدين فتخذوه ذريعة للأطماع الدنوية والسياسية.
لذلك كان للغرب هذا التصور النقدي للدين، لكن الدين الإسلامي يشمل كل الأفكار التي تؤسس للسياسية والمعاملات والعلاقات الاجتماعية فلا يمكن فصل الدين الإسلامي عن السياسية، كما فعل الغرب بفصلهم المتصل، بحيث بنيت الحداثة على "آلية تفريق المجموع"، ولشرح هذه العبارة يقول في صددها طه عبد الرحمن مايلي:
"ان الدهرانية تفصل الأخلاق عن الدين فصلا تختلف نماذجه باختلاف تعاملها مع المسلمات التالية "مسلمة التبدل الديني"، "مسلمة التخلق المزدوج"، "مسلمة الأمرية الإلهية"، وهي في هذا الاختلاف تسعى إلى تأسيس أخلاق مستقلة"(2)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.