نتائج “ثورات الربيع العربي” و”الثورات المضادة”.. بين “الفعل” و”رد الفعل

لا يمكن أن تكون مخرجات ثورات الربيع العربي عموماً وفقاً للإرادة الأميركية-الروسية دون أن تأخذ بعين الاعتبار "شدة المظالم" التي وقعت على شعوب دول الربيع العربي، خاصة تلك الواقعة على الشعب السوري، أكانت تلك المظالم مادية أو معنوية

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/06 الساعة 03:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/06 الساعة 03:21 بتوقيت غرينتش

يعتقد بعض الباحثين والمتابعين أن ثورات الربيع العربي قد وصلت إلى طريق مسدود، أو شبه ذلك، بعد أن أصبحت نتائج تلك الثورات تحت إرادة بعض الأطراف الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وهي فرضية بحاجة إلى تدقيق وتحقيق.

ظاهرياً، قد تبدو تلك الفرضية للوهلة الأولى مقبولة في المدى القريب، أو المتوسط، إذا كانت تستند في حجتها على ما تراه من تحركات ومناورات سياسية وعسكرية متبادلة ومتفاوتة لكل من (وبين كل من) الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في محاولتهما لفرض شروطهما على مخرجات ثورات الربيع العربي عموماً، خاصة الثورة السورية، أكان ذلك من خلال دعم "الثورات المضادة" أو غير ذلك.

ولكن، فعليًّا، ما نراه ظاهريًّا هو تحركات ومناورات سياسية وعسكرية تأتي في سياق سياسة "رد الفعل" لإجهاض الارتدادات أو "الموجات" التي أحدثها، وما زال يحدثها (وسيحدثها في المديين المتوسط والبعيد)، "الفعل" الناجم عن ثورات الربيع العربي منذ انطلاقها قبل خمس سنوات تقريباً.
بمعنى آخر، انطلاقاً من مفاهيم نظرية "إدارة النزاعات"، تحديداً مفهوم "نضوج أو توقيت إنهاء النزاع" ("Ripe Moment" or "Ripeness")، بمفهوميه "النضوج الزمني ("Clock Time")" أو "النضوج الاجتماعي ("Social Event" or "Event Time")"، وانطلاقاً من مفهوم "شدة المظالم" ("Intensity of Conflict" or "Grievances")، وانطلاقاً أيضاً من مفهوم أو نظرية "الفوضى" ("Chaos") أو "تأثير (موجات) الفراشة" ("Butterfly Effect")، لقد شكلت العديد من "المظالم" أو "الأحداث الإجتماعية" مجموعة من "الموجات" المتتالية شديدة التأثير بشكل تصاعدي على مدار عقود لتلعب بعد ذلك دافعاً مهماً في "نضوج" نزاع طويل الأمد، أي النزاع الذي كان قائماً بين الشعوب العربية من جهة والأنظمة العربية المستبدة من جهة أخرى، ليصل إلى مستوى "التصعيد"
(Escalation)، أي التحرك لمواجهة تلك الأنظمة وإسقاطها التي سببها "حادثة اجتماعية" مؤلمة، تحديداً إحراق محمد بوعزيزي لنفسه للظلم الذي وقع عليه، الذي شكل بدوره توفر شَرْطَيّ "النضوج الزمني" و"النضوج الاجتماعي" معاً لإنهاء النزاع القائم منذ عقود بين الشعوب العربية من جهة وأنظمتها من جهة أخرى من خلال إعلان الثورات على تلك الأنظمة العربية المستبدة.

إضافة إلى ذلك، لقد نتج عن مجموعة من "الأحداث الاجتماعية (بما فيها الأحداث السياسية)"، المباشرة وغير المباشرة، كمًّا ونوعاً، مجموعة من "المظالم الشديدة" التي شكلت بدورها في المحصلة مجموعة من "الموجات" المتتالية شديدة التأثير لتمهد الطريق بعد ذلك إلى "نضوج النزاع"، بمفهوميه "النضوج الزمني" و"النضوج الاجتماعي"، أي إلى اندلاع الثورات لإسقاط الأنظمة العربية المستبدة. من هذه "الأحداث الاجتماعية" الرئيسية، على سبيل المثال: (1) حملة "الحرب على الإرهاب"، عقب أحداث أيلول 2001، التي تم توظيفها من قبل الحكومات العربية المستبدة لقمع القوى المعارضة الإسلامية العربية لتشكيكها بشرعية الحكام العرب المستبدين. (2) دعم الولايات المتحدة الأميركية للأنظمة العربية المستبدة، الأمر الذي أكده اعتراف وزيرة الخارجية السابقة، كونداليزا رايس، بتصريحها في عام 2005 الذي قالت فيه: "لقد سعت الولايات المتحدة الأميركية على مدار 60 عاما من أجل تحقيق الاستقرار على حساب الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، ولكنها لم تحقق أيًّا منهما". (3) فشل المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية و"شدة المظالم" الناجمة عن العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 وقطاع غزة عام 2008/2009.

أيضاً، وفقاً لمفهوم "القرارات الإستراتيجية" في نظرية "رسم السياسات واتخاذ القرارات"، لقد أدت قرارات وسياسات الأطراف الراعية لـ"الثورات المضادة"، خاصة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، إلى مجموعة جديدة من "المظالم الشديدة" التي ستمهد الطريق في المدى المتوسط أو البعيد، بطريقة أو بأخرى، إلى "موجات" متتالية شديدة التأثير بشكل تصاعدي ستؤدي في المحصلة إلى "نزاع جديد" ("Sub-conflict") متفرع من النزاع الأصلي (أي النزاع القائم بين الشعوب العربية من جهة وأطراف "الثورات المضادة" من جهة أخرى).

تاريخيًّا، لقد أدت الكثير من القرارات والسياسات التي انطلقت من سياسة "رد الفعل" إلى عواقب إستراتيجية مكلفة، كونها مهدت الطريق فيما بعد إلى انهيار أو سقوط العديد من الإمبراطوريات والدول، منها على سبيل المثال في العصر الحديث: (1) قرار أدولف هيتلر لغزو الاتحاد السوفيتي، تحديداً "معركة ستالينغراد"، وهو القرار الذي مهد الطريق فيما بعد إلى خسارة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. (2) قرار الاتحاد السوفيتي لغزو أفغانستان، الذي مهد الطريق فيما بعد إلى سقوط الإمبراطورية السوفيتية. (3) قرار صدام حسين لغزو الكويت، الذي مهد الطريق فيما بعد إلى إنهيار العراق وحوله إلى "دولة هشة". (4) قرار الولايات المتحدة الأميركية لغزو أفغانستان والعراق، الذي مهد الطريق فيما بعد إلى خسائر مادية ومعنوية لحقت بالولايات المتحدة الأميركية، والذي بدوره أيضاً مهد الطريق فيما بعد إلى اندلاع ثورات الربيع العربي، كما ذكرت سابقاً.

وعليه، قرارات وسياسات الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لإجهاض ثورات الربيع العربي هي قرارات وسياسات صادرة من مركز "رد فعل" على أمل مواجهة "الموجات" الناجمة عن "الفعل" الذي أحدثته ثورات الربيع العربي، لعلم الدولتين بأن هذه الثورات سوف تشكل تهديداً على أمنهما القوميين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، آجلاً أم عاجلاً.

تأكيداً لذلك، عموماً، الثورات (المنتصرة منها والمهزومة) تبقى في مركز "صناعة الفعل" السياسي والاجتماعي، بطريقة مباشرة و/أو غير مباشرة، لعقود وربما لقرون لاحقة من اندلاعها. على سبيل المثال، كما ما زال يتحدث الكثير من المؤرخين والأكاديميين والسياسيين منذ عقود وقرون عن الأثر أو "الموجات" الناجمة عن "الفعل" الذي أحدثته الثورات وحركات الاحتجاج الشعبية لتغيرها العديد من القيم السياسية والاجتماعية في بلدانها والعالم، سيتضح أيضاً الأثر أو "الموجات" الناجمة عن "الفعل" المباشر وغير المباشر الذي أحدثته، وتحدثه، وستحدثه، ثورات الربيع العربي سياسيًّا واجتماعيًّا ليشكل بذلك دافعاً في "الذاكرة الجمعية" للعرب، وربما غيرهم، في المدى القريب والمستقبل المنظور وغير المنظور (كما هو "الفعل" المباشر وغير المباشر الذي أحدثته "الوثيقة العظمى للحريات"، و"الثورة الإنجليزية"، و"الثورة الأميركية"، و"الثورة الفرنسية"، و"الثورة الصينية الأولى والثانية"، و"الثورة الروسية (البلشفية)"، و"ربيع براغ"، و"الثورة الإسلامية الإيرانية"، و"احتجاجات ساحة تياننمن" وغيرها).

الخلاصة: لا يمكن أن تكون نتائج ثورات الربيع العربي عموماً وفقاً للإرادة الأميركية-الروسية دون أن تأخذ بعين الاعتبار "شدة المظالم" التي وقعت على شعوب دول الربيع العربي، خاصة تلك الواقعة على الشعب السوري، أكانت تلك المظالم مادية أو معنوية. غير ذلك، عدم استقرار المنطقة من شأنه أن يشكل دافعاً جديداً في المدى المتوسط أو البعيد سيساعد على تحفيز "موجة أو موجات" جديدة من ثورات الربيع العربي أو ثورات عربية جديدة ستتسع دائرتها بحيث "لا تبقي ولا تذر" من نارها.

بلا شك، أي حل يعيد الواقع العربي سياسيًّا واجتماعيًّا إلى ما قبل ثورات الربيع العربي سينتج عنه في المدى المتوسط أو البعيد "فوضى" تكون حينها خارجة عن سيطرة النظام العربي الرسمي وأطراف "الثورات المضادة" الإقليمية والدولية، الذي من شأنه بالتالي أن يمهد الطريق فيما بعد إلى "شرق أوسط جديد" مغاير لما تريده أطراف "الثورات المضادة"، خاصة الولايات المتحدة الأميركية في المقام الأول، بالإضافة إلى روسيا وأوروبا وإسرائيل وإيران والإمارات العربية المتحدة والأردن.

لذلك، على الأرجح، ستلجأ الأطراف الدولية الداعمة لـ"الثورات المضادة" والمناهضة لثورات الربيع العربي في المدى المتوسط أو البعيد إلى التعامل مع أطراف ثورات الربيع العربي الفاعلة والرئيسية، خاصة "حركات الإسلام السياسي المعتدلة"، وستبدي لك الأيام ما كان خافياً… والله أعلم.

المراجع

1. Bercovitch, Jacob and Allison Houston, (2000), "Why Do They Do It Like This?" Journal of Conflict Resolution, Vol. 44, No. 2 (April 2000), pp 170-202.
2. Helgesen, Vidar, "The Butterfly Effect and the Arab Spring," International for Democracy and Electoral Assistance (IDEA): http://www.idea.int/news/butterfly-arab-spring.cfm
3. Howard, Philip N. and Muzammil M. Hussain, (2013), "Democracy's Fourth Wave? Digital Media and the Arab Spring," New York: Oxford University Press.
4. Huntington, Samuel P., (1991), "Democracy's Third Wave," Journal of Democracy, Vol. 2, No. 2 (Spring 1991), pp 12-34.
5. Husain, Ed, "Did Iraq War Give Birth to the Arab Spring?" CNN: http://edition.cnn.com/2013/03/17/opinion/iraq-war-arab-spring-husain/ Retrieved on 28-12-2015.
6. Jamoul, Hamze Abbas, "The Arab Spring: The Root Causes?," Almanar: http://www.almanar.com.lb/english/adetails.php?eid=45439&cid=31&fromval=1 Retrieved on 30-12-2015.
7. Kleiboer, Marieke, (1996), "Understanding Success and Failure of International Mediation," Journal of Conflict Resolution, Vol. 40, No. 2 (Jun., 1996), pp. 363-364; and
8. Nooraie, Mahmood, (2012), "Factors Influencing Strategic Decision-Making Processes," International Journal of Academic Research in Business and Social Sciences, Vol. 2, No. 7, pp. 405-429.
9. Sarihan, Ali, (2012), "Is the Arab Spring in the Third Wave of Democratization? The Case of Syria and Egypt," Turkish Journal of Politics (TJP), Vol. 3, No. 1 (Summer 2012), pp 67-85.
10. Waldner David, (2002), "Anti Anti-Determnism," USA: Department of Politics, University of Virginia, pp. 49-64.
11. Wang, Yu, (2005), ""Clock Time" Effect on Mediation Outcome 1945-1995: An Empirical Research," Chinese Public Affairs Quarterly, Vol. 1:4 (2005), pp. 325-350.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد