"المدن مثل البشر".. قال لي صديق، فصمتُّ وقد أخذني التفكير في عميق وصدق هذه العبارة..
هناك من المدن من تخطف أنفاسك ويبث سحرها الدهشة في قلبك دفعة واحدة من أول لقاء.. هكذا بلا مقدمات.. ولكن شيئاً داخلك يخبرك أنها لا يجوز أن تعدو كونها علاقة عابرة في حياتك.. وأن اللقاء بها أكثر من مرة سيفسد سحر المرة الأولى.. لذا لا لقاء بعدها.. تغادرها متيقناً أنه لن تجمعك بها إلا الذكريات..
هناك مدن ينتفض قلبك من غيبوبته الطويلة بين أزقتها وحاراتها الضيقة.. ترقص روحك وهي تسمع أصوات ساكنيها ونبرة حديثهم مع بعضهم بعضا.. تعود لمعنى أن تعيش حياتك بروح شابة بدلاً من أن تمضي أيامك بروح قد شابت من خيبات الأمل.. كل هذا يعود إليك كلما تأملت بروحك عينيها الشابتين، ببريقهما الذي لا ينطفئ، بل يتوهج على مرّ السنوات.. وكل مرة تراها تقع في الحب للمرة الأولى من جديد.. معها نفسها.. تعلمك كيف تحبها بطريقة مختلفة في كل مرة..
هناك مدن تعرف كيف تصادقك وتمنح السكينة والهدوء لنفسك المضطربة من فوضى الحياة.. تنسجم روحك مع روحها، وكأنك تعرفها وتعرفك منذ سنوات.. تجد نفسك بلا تردد تبوح لها بكل تلك الأسرار التي ضاق بكتمانها صدرك.. وتثق بأنها ستفهمك وتصغي لإحساسك وراء كل حرف تنطق به.. هي من تريد دوماً أن تشاركها همومك من بين المدن.. هي من تركض مسافراً إليها عندما تبحث عن مدينة حقيقية وتظن أن المدن الحقيقية اختفت من حياتك ما لم تربطك بها المصالح.. فتتذكر تلك المدينة التي تعرفك وتحبك لذاتك ولحقيقتك بلا أي مقابل.. تلك المدينة التي لا تطيق صبراً كي تكون هي أول من يعرف أخبارك المفرحة، ليقينك أنها وحدها من بين المدن ستفرح ذات الفرح وتمنحك المزيد.. كيف لا وهي صديقتك وشقيقة روحك.. تلك المدينة التي تشعر بالوحدة في بعدك عنها مهما أحاطتك أضواء مدن أخرى وأبنيتها وأسوارها وبيوتها.. فأنت لا تشعر بالسكن إلا بالحديث معها وحدها..
هناك من المدن من تعرفها عمراً، لكنها وكما يتغير البشر.. تتغير أيضاً.. ربما لظروف قسوة الحياة التي عصفت بها.. ربما لبعد أحبائها عنها عمراً.. ربما للهاثها وراء المظاهر والماديات ولحاقها بركب المنافسة وسط أقرانها.. فما عادت هي نفسها، ولا وصلت إلى ما طمعت به.. فعلقت في المنتصف وأضحت مسخاً مجهول الهوية.. ومع تغيرها ما عدت تدرك مشاعرك نحوها مطلقاً..
هناك مدن ترفضها من المرة الأولى، وتدرك بأنه ليس مقدراً لك أن ترافق هذه المدينة.. فالمحبة في يد خالق المدن وحده.. وإن لم يزرع هذه المحبة في قلبك وفي روحها، فلن توجدها قوة على وجه الأرض كلها.. مهما سمعت من انبهار الناس بجمالها وتغزلهم بحسنها.. ومهما أدرك عقلك من كل الأسباب المنطقية التي تجعلها الأفضل بلا محالة.. ولكن روحك تعجز عن فهم هذا المنطق وتشعر بقيد جاثم على صدرها يمنعها من انطلاق عنفوانها في أرجاء هذه المدينة..
هناك مدن لا تحبها في اللقاء الأول.. إنما تكتشف مع الأيام أن السبب هو خجلها وعدم كشفها لحقيقتها لك من المرة الأولى.. والتي كانت تخفي جمالاً منقطع النظير.. كما وقد تكتشف مع الوقت أن السبب كان انعدام رؤيتك أنت.. فقد كنت مأخوذاً بصورة رسمتها في مخيلتك عنها، ولم تمنحها الفرصة كي تعرفها حقاً.. فلما عرفتها.. ذبت في حبها..
كتبت في بداية المقال بأن المدن مثل البشر.. هكذا أخبرني صديقي.. وما لم يعرفه صديقي أن مدينتي التي تبعث الأمل في أوراقي كلما أخذت بالذبول والاصفرار.. فتعيدها خضراء شابة من جديد.. وهي المدينة التي تسببت في تدفق هذه الكلمات.. وتصبر على إحباطاتي وتبدلها حيوية وتجدداً كل مرة.. وما أكثرها من مدن في حياتي! وما أجملها! وكم أنني ممتنة لأن روحي صادفت هذه المدن ذات نهار.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.