(1)
في منطقة "إيسكودار" التي تقع في الجانب الآسيويّ من مدينة "إسطنبول"، تمامًا أمام خليج البوسفور، درجة الحرارة المنخفضة رُفعت بارتفاع وتيرة النقاش مع الرفاق عن ثورةٍ تركناها هاربين وعن كيف تغيرت أفكارنا، وكيف أصبحنا نؤمن بأشياء لم يكن لنا أن نؤمن بها يومًا ما، وعن أشياء أخرى كفرنا بها وقد كانت من المُقدسات، وعن أحوال دنيا متقلبة.
كان هذا حتى مرّ علينا فتًى تقول ملامحه إنه عربيّ ربما هارب هو مثلنا.
بدأ الشاب قصير القامة بالتحديق بنا دون سابق معرفة، ثم بدأ بمشقة واضحة جمع كلماته ليطلق علينا وابلًا من الأسئلة المثيرة للريبة. ومع بداية خروج الكلمات من فمه نحونا أدركنا سريعًا أنه سوريّ.
كان يسألنا بلسان المحقق الصارم، زادت حدة أسئلته فأمسكت بمطفأة السجائر الملقاة أمامنا على الطاولة متوجهًا نحوه، يبدو أخيرًا أنه سيكون لها فائدة،.
ما إن اقتربت من الفتى حتى فاحت منه رائحة الحزن النفَّاذة تصارعها رائحة الكحول! لم يُعرني الفتى أي اهتمام ولم يبدِ أي قلق من جثتي الضخمة، أدركت حينها أنني أمام شخص ليس لديه ما يفقده، أعدت المطفأة إلى مكانها وطلبت من أصدقائي التوقف للحظة عن مضايقته ليرحل.
ضممته إليّ وسألته عن اسمه أجابني:"أحمد"! ظل يخبرني أنه ليس شحاذًّا وليس سكرانًا ولكنه تعرض لظروف قاهرة جعتله يبدو كما هو الآن، سألته عن حاجته للمال فقال مباشرةً في عيني إنه قادرُ على إغراقي بالمال، ثم تلفت لنا واعتذر ومضى في طريقه!
(2)
في الجانب الآخر من المدينة، في ميدان "تقسيم"، أحد أشهر مزارات إسطنبول تحديدًا في شارع الاستقلال، عن يمينك ويسارك ترى كل ما تشتهي النفس، أفخم متاجر الملابس وكذلك المطاعم وقوادو فتيات الليل!
على مد البصر رأيت تجمعًا كبيرًا من البشر، غلبني الفضول لأشاهد ما يشاهده هذا العدد من البشر، في وسط الدائرة التي رسمها الجمع كانت تجلس فتاة عمرها لا يتجاوز العاشرة ممسكة بطبلة تضرب عليها بأناملها الرقيقة كضارب محترف، كان أمام الفتاة كوب فارغ لمشروب غازيّ من أحد أشهر مطاعم الوجبات الجاهزة، يضع فيه المتفرجون ما تجود به أيديهم وهم يصورونها بهواتفهم الذكية التي يكفي ثمن أحدها لقلب حياة هذه الفتاة رأسًا على عقب.
وإذا ما نظرنا أعلى قليلًا فوق رأس الفتاة كان يوجد لوحة إعلانية لمتجر ينتمي لسلسلة محال ملابس عالمية، كانت ملامح الفتاة تبوح بالضيق والانزعاج، رغم سعادة من حولها وبهجتهم، كان يبدو جليًّا أنها مجبورة على ما تقوم به، لم يكن لبراءة الأطفال مكان في وجهها رغم جمال ملامحها.
(3)
يومًا ما ليس كيومنا هذا سيقف "أحمد" بين يديّ ربه ليسأله ربه عن الخمر التي أسكرته في "إيسكودار" وهي المحرمة وسيسأله عن كل تفصيلة في حياته، هكذا يقول دين أحمد. لكن هل سيحق لأحمد أن يسأل ربه عن سبب تشريده ومعاناته؟
هل سيحق لأحمد أن يسأل ربه عن تركه وأهله فريسة مرتين، الأولى لبراميل الأسد والثانية لمراكب الموت؟
هل سيحق لأحمد أن يسأل ربه لِم دخل الفُرس والروس والأميركان أرضه وقتلوا أهله وصحبته دون سابق معرفة أو عداء؟
وإن حُقّ لأحمد السؤال فبمَ سيجيب ربه؟ هل سيشرح له الظروف الإقليمية وتوازنات القوى في المنطقة؟ أم سيبرر له ما حدث بأن "عدله" يجبره على عدم تدخله بين البشر. أيًا كانت الإجابة وقبل أن يرميني أحدهم بالهرطقة والزندقة، ما حدث قد حدث ويبقى أمل أحمد في رحمة ربه.
أما تلك الفتاة، فهي ضحية العالم الجديد بكل تفاصيل المشهد الدامي! هي ضحية لأرباب رأس المال ومحبي السوق المفتوح المؤمنين بأنه لا مكان للبشر العاديين وأنه يجب على الجميع أن يكون متميزًا ليحصل على عضوية مجتمع الفاعلين.
والمثير للغثيان أن هؤلاء هم ذاتهم الذين وقفوا مصفقين للفتاة الصغيرة ثم وضعوا بعض العملات المعدنية في الكوب الملقى أمامها قبل أن ينصرفوا بعد أن انتهت الفقرة المبهرة دون أن يدركوا لوهلة أنها ضحيتهم، بهذه البساطة وبكل السلام الداخلي يحكم هؤلاء وسياساتهم على ملايين البشر بالموت البطيء دون أي مراعاة لأدنى مبادئ الإنسانية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.