انتهى عامي الأول في تركيا بعد أيام جميلة وشاقة أمضيتها في تعلم اللغة التركية التي لا مفر من تعلمها للراغبين بالدراسة في الجامعات التركية. لم تكن هذه المرة الأولى التي أغادر فيها فلسطين (الضفة الغربية تحديداً) ولكنها كانت الأكثر إثارة، كيف لا وفيها حالفني الحظ بلقاء المئات من الطلبة العرب والأجانب الذين جاءوا من أنحاء العالم طلباً للعلم.
لطالما تبادلنا أطراف الحديث فكان لفلسطين وقضيتها نصيب الأسد دوماً. ما هو رأيهم؟ هل يعرفوننا؟ هل يصدقون الرواية الإسرائيلية التي تظهرنا دوماً أعداءً للسلام؟ وأسئلة كثيرة لا تنتهي وددت طرحها أملاً في إشباع الفضول.
مع بدء المغامرة ضاع اسم فلسطين بين "الفلبين وباكستان" قلت لربما هي لعنة اللغة وتشابه اللفظ بينهما قبل أن أشاهد علامات الحيرة ترتسم على وجوه الأصدقاء لأتدخل شارحاً تاريخ القضية منتصراً لآلام شعبنا الذي مل مطالبة المجتمع الدولي رفع الظلم الواقع عليه.
تحدثت شاكياً هذه الحال لأصدقائي العرب لأجد بعضهم لا يميز بين قبة الصخرة والمسجد الأقصى لأتذكر فوراً المثل الشعبي القائل "على بال مين يلي بترقص بالعتمة". سنوات من النضال الفلسطيني طُمست من أذهان الجيل الجديد بفعل الماكينات الإعلامية الإسرائيلية التي انتهزت ظروف الوطن العربي الراهنة وراحت تروج دعايتها كما تشاء بعيداً عن كل الأنظار.
مما لا شك فيه أن بيتر الشاب الوسيم الذي يجلس أمام المدفأة يحتسي قهوته على مهل في بلاد العم سام سيصدق كأمثاله في القارة العجوز تصريحاً مفاده "نقتلهم لأنهم دواعش هذا العصر" سيدلي به الناطق بلسان جيش الاحتلال الإسرائيلي رداً على ارتكاب الجرائم بحق فلسطين وأطفالها؛ كيف لا وقد شاهد بيتر قبلها بأيام قليلة ثلة من مقاتلي داعش تقطع الرؤوس مكبرة باسم الله في العراق والشام.
قد لا تصل الحقيقة لبيتر ولكنها ستصل حتماً لأصدقائي العرب، فليعلموا بأنه لا يوجد مطار أو ميناء للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية ولا يسمح لهم باستخدام المطارات الإسرائيلية لذا يتوجب على سكان الضفة الغربية أن يغادروا عبر الأردن برًّا ليصلوا لمطارات المملكة ليتمكنوا من استخدامها أما فيما يتعلق بقطاع غزة فلا يختلف الحال كثيراً حيث يربطهم معبر رفح البري بالعالم لكنهم حرموا منذ سنوات ولا زلوا من استخدامه بفعل تعقيدات المشهد الفلسطيني المتمثلة بالانقسام الداخلي ورفض كل من مصر وإسرائيل تشغيله حالياً.
"السفر من الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية" لا يتم إلا عبر جسر الكرامة الواصل بين الضفتين، لا كرامة فيها ولكنها تجربة أعرف تفاصيلها جيداً.. عشرة كيلومترات أو أكثر بقليل قد يستغرق قطعها نهاراً بفعل إجراءات الاحتلال التعسفية.
يحمل الفلسطينيون بطاقات خضراء وزرقاء كبطاقاتٍ شخصية تميز بينهم حسب المنطقة التي يقيمون فيها حيث لا يسمح لحملة البطاقات الخضراء وهم سكان الضفة والقطاع بالوصول للمناطق التي يحمل سكانها البطاقات الزرقاء والتي يفصلها عنهم الجدار العازل الذي ما زال يحجب شمس الحرية منذ سنوات برفقة نقاط التفتيش المنتشرة على مداخل كل المدن والقرى ويحمل الفلسطينيون من سكان الضفة والقطاع أيضاً جواز سفر تصدره السلطة الفلسطينية صنف مؤخراً كأضعف وأسوأ الجوازات عالمياً وفقاً لما يمنحه لحامله من امتيازات بأقل من عشر دول يمكن للفلسطيني دخولها بلا تأشيرة.
يُحرم سكان الضفة من الوصول لبحرهم، يُحرم سكان غزة من الصلاة في القدس، يُمنع البناء بالقرب من المستوطنات، يُحرم الفلسطينيون من استخدام وسائل النقل الإسرائيلية وقائمة الحرمان تطول وتطول.. آلاف الأسرى آلاف الشهداء وآلاف الجرحى وما زال الفلسطيني ينتظر سلامهم الموعود.
يدفع الفلسطيني الضرائب الأعلى في العالم وفي المقابل يتقاضى أدنى الرواتب والأجور، ينفق ما يعادل ثمانية آلاف دولار للحصول على الشهادة الجامعية الأولى من إحدى الجامعات الوطنية. لا كهرباء في غزة لا ماء في بعض مناطق الضفة وهكذا الحال!
لا أكتب طمعاً في رؤية دموعكم تنهمر عطفاً، أكتب علَّني أنجح في إيصال رسالتي كي لا يقتلنا بعض الأشقاء مرة أخرى فحالة الإحباط التي أصابتنا لا تحتاج لأسباب ودوافع أكثر، لذا لا تتهمونا بالإرهاب أو التطرف لا تخطئوا فهمنا قدروا موقفنا عززوا صمودنا وتجنبوا إطلاق الأحكام المتسرعة فنحن أيضاً لم نعد نعلم إلى أين تتجه قضيتنا ولدينا من الأسئلة ما يكفي!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.