دموع غالية يشهدها الله وتشهدها تلك الليلة حتى صباحها.. قبلات، دموع ساكبات، أحداث ليلتنا وصباحها، أنزل والدي حقيبة سفري ودموعه لا تتوقف، ركبنا التاكسي وانطلقنا حيث مكان تحرك حافلات المسافرين، وصلنا تجمع المسافرين، يسارا ويمينا كلٌّ يودع إلا أبي وأعمامي، ينظرون إليَّ وأنظر إليهم والدموع حديثنا، أبي الذي كنت أرقبه من بعيد بقلبي كان يبحث عن شيء فرأيته يتركني ويذهب إلى أحد الأرصفة ليلتقط من عليه رباطا ورديا ويأتي مسرعا ليعقده على حقيبتي حتى لا أفقدها، "أبي ما أرحمك حتى تفاصيل دقيقة وأنا أبتعد تهتم بها حتى لا يُكدر خاطري ما أجملك".
صعدت للحافلة بعد وداع أبي، فيصعد هو ليخبرني مجددا أنه وضع علامة على حقيبتي، أكنت توصيني يا أبي بالرباط أم بالحقيبة أم أنك توصي عينيك ألا تفارقاني، ومضت الحافلة والدموع ماضية ووصلت معبر رفح وحقيبتي أمامي يزينها رباط وردي بين ثناياه لون ذهبي، وانطلقنا للمعبر المصري ونظراتي لا تفارق عقدة الرباط الوردي ما أجمله من أبي، وبقيت بالمعبر المصري يوما وليلة وأمامي شيء من أبي، وغادرت مطار القاهرة بعد معاناة وتضييق من الجانب المصري كوننا أبناء قطاع غزة، ووصلت الأردن وما زال الرباط أمام ناظري، تزوجت ودخل الرباط والحقيبة مملكتي الصغيرة وكأنه هدية أبي بزواجي، في كل ربيع تحمل حقيبتي الملابس الشتوية لخريف قادم مخرجة الملابس الصيفية، وتمر الفصول وما زالت تتلألأ حقيبتي بما عقدت يدا أبي.
بيوتا تنقلت بينها وفي كل مرة أحمل رباط أبي بعقدته الجميلة، ملابس طفلي أحمد وطفلتي ألما لامست جمال الرباط الوردي وأنا أضع ثيابهما في حقيبتي.
أبي كم مرة تعبت ومرضت وحين أحادثك هاتفيا تتقطع أوصال فؤادي، مرضي ليس إلا داء الشوق لا يشفيني غير رؤيتك.. أبي لحظات الفقد بالغربة وجع لا ينتهي ألمه، أذكر حين صدمت بخبر وفاة عمي الأكبر كالصاعقة وعندما اتصلت لأعزيك علمت أنك كنت في العناية المركزة ولم يخبروني، يومها المصيبة كانت أعظم..
أبي حضرت معكم حرب 2008 /2009 وأهوالها، ولكن المرعب في الحروب التاليات كان مشاهدتي القصف على غزة في كل مكان وأنا جالسة أمام شاشة التلفاز لا أحرك ساكنا سوى الدموع، من الظلم أن أشاهد الحرب على أهلي ولست بينهم..
أبي أخشى يوما أطرق فيه الأبواب ولا أحد يجيب حينما أعود عمي وابن عمي وجدتي التي كنت قد عاهدت نفسي أن تكون أول من أراها حين أصل غزة وهي التي كلما اتصلت أسمع دفء صوتها قالت لي: "وينك ياستي تأخرتي كثيرا، ما بدك تيجي نشوفك".
"يا حبيبتي يادفء قلبك وروحك كيف لعينيَّ حين أصل غزة ألا تراكِ، والكثير الكثير ممن صدمت برحيلهم عن غزة بل عن حياتنا المؤلمة..
أبي جراح الغربة غائرة لا تندمل، فهي تتجدد حينما يعود الغياب للديار فلا يرون أثرا لمن تركوا، فتفتح جراحنا من جديد وكأنهم اليوم رحلوا..
أبي هل للعمر بقية حتى يأذن لي ربي فأحيا بكنفك يوما هنيا، أبي هل سمعت صوت نحيبي وأنت ترقد في العناية المركزة تقول اسمي أحادثك فلا تعلم من أنا من شدة الإعياء وتكتفي بكلمتين لتغلق الهاتف وأنت من لا أشبع من حديثه مليا.
أبي عادت حقيبتي مع زوجي بعد 3 سنوات في تغطية لحصار غزة.. عذرا منك يا أبي فقد تجرأت وفككت عقدة الرباط الوردي حتى لا يفقده زوجي بسفره وحتى أعيده أنا لك، فمتى يا أبي أعود لك وحقيبتي وذاك الرباط وبين يدي طفلان جميلان لم تكتحل عيناك برؤيتهما..
ست سنوات أثقلت قلبي وأغرقتني الدمعات فقط أريد أن أعيد رباط أبي الوردي.. افتحوا معبر رفح لا لشيء فقط لأعيد رباط أبي الوردي وأقبل يديه وأخبره عن شوق واشتياق ودموع حارقات كلما لمحت رباطه الوردي..
افتحوا المعبر لأعيد لأبي كنزا أودعه لدي.
افتحوا المعبر فقد اشتقت لأبي..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.