لو كنت أقدّم امتحاناً اليوم وجاءني سؤال مُرسّب يطلب مني شرح موقف الهيئة العليا من المفاوضات من المشاركة في مؤتمر جنيف، فسأغادر مقعدي وأنسحب من الامتحان فوراً وأسلّم ورقتي بيضاء إلى المراقب، لأني سأعتبر السؤال تعجيزياً وأي جواب سأكتبه بناء على معلوماتي أو تحليلي أو تنبؤي لن أحصل مقابله (مثلي مثل كل سوري بما فيهم أعضاء هيئة التفاوض والوفد المفاوض نفسه) على درجة أكثر من الصفر.
فلا أحد من كل هؤلاء يستطيع أن يقدّم إجابة واضحة لما حدث خلال الأسبوع الماضي وصولاً إلى اليوم، والجواب الصحيح الذي يمكن تجيب عليه في هذه اللحظة، سيصبح خاطئاً بعد ساعة أو ربما أقل، فالأحداث تتغيّر وتنقلب رأساً على عقب في موقف الهيئة العليا من المفاوضات من المشاركة في مؤتمر جنيف من ما قبل طرح السؤال إلى ما بعده.
تماماً بنفس الطريقة التي رد فيها رفيق الحريري مرة على سؤال طرحه عليه صحفي عن حجم ثروته، فأجابه: قبل سؤالك أم بعده؟ ولذلك فعقرب الثواني وليس الساعات ولا حتى الدقائق هو الذي حدد ولا يزال يحدد دقة الجواب وصحته.
ليست هذه هي المشكلة الوحيدة في موضوع فهم موقف الهيئة العليا من المفاوضات من المشاركة في مؤتمر جنيف، فحتى لو اخترت توقيتاً في منتهى الدقة لتفهم موقف الهيئة كأن تسأل ما هو رأي الهيئة العليا للمفاوضات من المشاركة في اجتماع جنيف الساعة السادسة وخمس دقائق وتسع عشرة ثانية من مساء يوم الاثنين 25 يناير/كانون الثاني 2016، فلن تحصل على جواب واحد.
فعلى طريقة أن الحقيقة ما قبل جبال البيرنيه هي غير ما بعدها، لكل عضو من أعضاء الهيئة العليا للمفاوضات حقيقته الخاصة التي يبوح بها للقناة التلفزيونية التي يظهر على شاشتها، فإذا كنت من متابعي قناة الجزيرة فستسمع رياض نعسان آغا بابتسامته البلاستيكية وعربيته الجزلة وهو يفخّم الخاء يقول للمذيعة: "يا أختي نحن إيجابيون وأبوابنا وعقولنا وقلوبنا مفتوحة للمشاركة في مؤتمر جنيف، ونحن في حالة انعقاد دائم لاتخاذ القرار المناسب الذي يحفظ حقوق شعبنا، وسنذهب إذا كان الذهاب في صالح شعبنا، ولن نذهب إذا كان ذهابنا لا يصب في مصلحة شعبنا، لكننا لن نغلق الأبواب"، ثم يختم ببيت من شعر المتنبي مناسب للحالة..
أما إذا كنت من مشاهدي العربية فستشاهد جورج صبرا بلباس الميدان الكامل وهو يخطب أمام المذيعة: "يا سيدتي نحن نرفض الإملاءات ولن نذهب إلى جنيف ونفاوض وشعبنا يُقصف ويموت ويجوّع، ولو كان ذهابنا إلى جنيف يحقق تطلعات شعبنا فلن نتوانى عن الذهاب، أما إذا كان الذهاب سيصب ضد آمال شعبنا فلن نذهب".. وإذا مررت بالصدفة على شاشة سكاي نيوز عربية فسترى منذر ماخوس وهو يصرخ في بصوت أقرب إلى المصاب باحتشاء قلبي، وجهه مخنّق والزبد يخرج من فمه، وتارةً يخاطب المذيع بكلمة يا سيدتي، وأخرى يقول له ياسيدي: "نحن لن نضحي بشعبنا، سنذهب إلى جنيف أو لا نذهب، ليست هي المشكلة، المهم إنقاذ شعبنا، فإن كان إنقاذه يتم بذهابنا فسنذهب، وإن كان إنقاذه يتم برفضنا الذهاب فسنرفض"..
أما لو مررت بشاشة فرانس 24 فسترى سالم المسلط بوجهه المحمّر كما لو أنه خارج للتو من الساونا وهو يهمس: "يجب أن تعرفوا أننا لسنا وحيدين في هذا العالم، فنحن لدينا أصدقاء نسألهم ويشيرون علينا ويدعموننا، ونحن نقوى بهم، وحسب رؤية أصدقائنا اليوم نحن يجب أن نذهب إلى جنيف، فجنيف هو محطة مهمة، ومنبر يجب ألاّ نتركه للنظام ليستأثر به، وقد يرى أصدقاؤنا غداً أن لا نذهب وعندها لن نذهب، جنيف ليست مهمة، الأصدقاء أهم"..
لا أعرف بأي صيغة وعلى أي أسس ناقش رياض حجاب مع أعضاء هيئته قرار المشاركة في جنيف حتى حصلنا على هذا العدد اللامتناهي من الآراء التي لا تقول شيئاً ولا تعطي معلومة، وتحتاج إلى قرصين بانادول على الأقل لمعالجة ارتباكها وتشتتها؟ هل تعامل رياض حجاب مع قرار المشاركة بجنيف على أنه أحجية فلسفية مثلاً، وتصرّف مثل كونفوشيوس أو بوذا أو المسيح وخاطب حوارييه وتلامذته من أعضاء الهيئة قائلاً: اذهبوا يا أبناني وابحثوا بأنفسكم في الكون عن الحقيقة، اجتهدوا في التفسير واطرحوا آراءكم واخلقوا تيارات وأنشئوا مدارس وولِّدوا أفكاراً، حتى شاهدنا هذا الكم الهائل من التفسيرات والاجتهادات التي لم يجب ولا واحد منها على سؤال هل ستذهبون إلى جنيف أم لا؟
أم أن رياض حجاب وحفاظاً على سريّة قرار الهيئة بالذهاب إلى جنيف من عدمه، وضماناً لعدم وصول هذه المعلومة الخطيرة للأعداء والخونة والطابور الخامس، أعطى لكل عضو من الهيئة العليا للتفاوض جملة من قرار الهيئة بالمشاركة أو رفض المشاركة في جنيف، وأننا إذا أردنا أن نعرف قرار الهيئة فعلينا أن نجمع كل أعضاء الهيئة كما يُجمع البزل لنعرف قرارها!
ما حدث الأسبوع الماضي شيء في منتهى السوريالية، تسرّب جريدة "العربي اليوم" خبر ضغوط جون كيري وزير الخارجية الأميركي على رياض حجاب، بوجوب إضافة جماعة موسكو (مناع ومسلم وقسيس وجميل وتركماني) إلى وفدهم، والقبول بحكومة مشتركة مع النظام بدلاً من هيئة حكم انتقالي، ونسيان أمر تنحي بشار الأسد والقبول بترشحه لأية انتخابات رئاسية قادمة، فيظهر من يستبسل في النفي: خبطات على الأرض.. ولا.. ولم يحدث هذا.. وخسى أن يحدث ذلك.. ومن هو هذا الكيري حتى يضغط على رياض حجابنا.. وعقالات ترمى على الأرض انتفاضاً، إلى أن وصلت مهزلة النفي الأمر بحازم نهار الأب المؤسس والرئيس الخفي لحزب الجمهورية إلى القول: إنه لا يستطيع في العمل السياسي تصديق أي كلام منقول حتى لو كان الناقل معروفاً بالصدق، بمعنى أنكم إن لم تأخذوه معكم لحضور كل الاجتماعات التي تجري في العالم فلن يصدقها، ولم يمر يوم على كل حملات التكذيب، حتى أصدر مايكل راتني المبعوث الأميركي لسوريا بياناً يفسّر فيه إملاءات كيري بلغة دبلوماسية مهذبة، تضيف كلمات مثل: لو سمحتم، ومن فضلكم، ومن بعد أمركم، في نهاية جمل مثل: ستنفذون هذا رغماً عنكم، وأنتم مجبرون، ولا خيار أمامكم، في تأكيد ولكن بصيغة النفي على ضغوطات وإملاءات جون كيري على رياض حجاب.
طبعاً بعدها عاشت الهيئة العليا للمفاوضات أياماً سوداء، وهي لا تعرف ماذا تقول وكيف تتصرف وما الذي ستفعله وماذا سيحدث إن ذهبت إلى جنيف، وما هو موقفها إن لم تذهب، ومن المؤكد أن بعض أعضائها لعنوا الساعة التي استقتلوا فيها للانخراط فيها، وهم يرون أنفسهم أمام خيارين: الذهاب إلى جنيف والتوقيع على إملاءات كيري وقبولها رسمياً واتهامهم بالخيانة، أو رفض الذهاب وتحوّل الهيئة إلى شيء أشبه بالزائدة الدودية أو كيس الشحم من الأفضل استئصاله، بما يعني ذلك من فقدان للامتيازات والمستقبل السياسي والثروات والكاميرات.
في تلك اللحظة كانت كما في كل اللحظات المصيرية للعرب اللغة العربية هي الحل، بعض البطولات، على شيء المواقف الثابتة، على كلمة شعبنا الثائر، على التضحيات الكبيرة والدم الغالي على رشة لاءات، على أرسلنا رسالة لبان كي مون، على تلقينا جواباً من نائبه لأن بان كي مون في تواليت الطائرة ولم يستطع أن يرد، خاصة وأنه مسافر على الخطوط السورية التي ليس في طائراتها إنترنت ولا تلفون لاسلكي.. ديمستورا طمأننا وقال لنا عكس ما قاله في مؤتمره الصحفي، وهو يضحك على وفد النظام ويتآمر معنا عليه، على أن كيري طمأننا أنه معنا وسيكون بجانبنا.
وفي غمرة كل هذه الهمروجة تم استبدل ثوابت رفض حشر جماعة موسكو في مقاعد الوفد المفاوض، ورفض الدخول في حكومة وحدة وطنية مع النظام، ورفض بقاء بشار الأسد رئيساً لا الآن ولا فيما بعد، بثوابت إغاثية مثل: وقف القصف والإفراج عن المعتقلين وفك الحصار عن المدن والمناطق المجوّعة، لا أحد يقلل من قيمتها أو يستهين بأهميتها، ولكن الحصول عليها بشرط وجود بشار الأسد رئيساً، لا يحتاج للذهاب إلى جنيف والجلوس على طاولة تفاوض، ويكفي رفع قطعة أندروير بيضاء على عصا في أي منطقة لتحقيقها.
وإذا كان طارق بن زياد دخل التاريخ بجملة "البحر من ورائكم والعدو من أمامكم" فرياض حجاب سيدخل التاريخ بجملة "قد نذهب إلى جنيف ولكن لن ندخل قاعات المفاوضات" التي مررها بين جملة لاءات بطولية كثيرة رفض فيها الإملاءات وشدد على تمسكه بالثوابت في أول ظهور تلفزيوني له خلال الأسبوع الماضي، ومن بين فائض ثوابته لم ينفذ إلاّ جملته تلك، ووافق على حضور جنيف بعد أقل من 24 ساعة على إعلان ثوابته، مع عواجل ظهرت على شاشات الفضائيات عن ضمانات تلقتها الهيئة العليا للمفاوضات، ثم سرعان ما نفى عدد من أعضاء الهيئة تلقيهم ضمانات واستبدلها رياض نعسان آغا ومنذر ماخوس بوعود أو تطمينات كل حسب لغته، وبتهديدات جدية بالانسحاب من المفاوضات إذا لم تتحقق مطالبهم الإغاثية، وهم يعرفون قبل الجميع أنها لن تتحقق، وأنهم لن ينسحبوا، ويعرفون قبل غيرهم أن ما لم يعطه بشار الأسد بالحرب، لن يعطيه بالمفاوضات، وأن ما لم يحصل عليه بشار الأسد بالحرب سيحصل عليه في المفاوضات، وأن الثورة أفقدت بشار الأسد الجزء الأكبر من مساحة سورية خلال حربها معه، فيما بشار الأسد حصل على إعادة الاعتراف الدولي به في المفاوضات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.