تحل علينا هذه الأيام مناسبة وطنية هامة كان لها أثرها الواضح على مجمل القضية الفلسطينية، وشكلت منعطفاً خطيراً لمجرى الأحداث التي جاءت بعدها، إنها ذكرى مرور عشر سنوات على انتخابات المجلس التشريعي الحالي والتي عقدت في الخامس والعشرين من شهر كانون ثاني/ يناير عام 2006م.
حيث جرت هذه الانتخابات في أجواء من الحرية والنزاهة ودون ضغوط، فهو مجلس يعبر عن حقيقة قناعات وتوجهات وضمير الشعب الفلسطيني الذي أعطى نواب هذا المجلس الثقة، وفازت فيها كتلة التغيير والإصلاح التي تحمل المشروع الإسلامي بأغلبية كبيرة.
وبهذه المناسبة تزدحم الأفكار والتحليلات والموضوعات ذات العلاقة بهذه القضية، ومن الصعوبة بمكان طرح جميع هذه الأفكار والموضوعات في مثل هذه المقالة المختصرة، ونأمل أن يفطن البعض لهذا الموضوع وهذه المناسبة ويدرسوه من عدة زوايا، ويبينوا الدروس والعبر المستفادة من هذه التجربة الفريدة.
وهنا سنحاول وضع الإصبع على هذا الجرح الكبير الذي تقيّح وعمّل (وفق مصطلحتنا المتداولة)، فهذا المجلس لم يعقد أي جلسة حقيقية منذ أكثر من تسع سنوات خلال العشر سنوات من عمره في ظاهرة فريدة وعجيبة ليس لها مثيلاً في العالم.
ويمكن أن تؤهله لعضوية موسوعة جينيس للأرقام القياسية، وهنا تكثر الاتهامات والتساؤلات عن مسؤولية هذا الشلل الكبير، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل من يتحمل هذه المسؤولية، ولكن هناك حقيقة يعرفها الجميع تعطينا تصوراً عاماً حول هذه المسؤولية، وهي أن السلطة التنفيذية طوال هذه المدة وحتى اليوم هي التي تتحكم بجميع السلطات في فلسطين (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وتستخدم سوط الأجهزة الأمنية لفرض سلطتها على الجميع، ولا تسمح لأعضاء المجلس التشريعي أو لغيرهم بالتحرك أو ممارسة دورهم المطلوب تجاه الوطن والمواطن، إلا وفق أجنداتها وقناعاتها الخاصة بعيداً عن أي رقابة أو محاسبة.
وحين حاول النواب الإسلاميون بعد خروجهم من سجون الاحتلال وبتاريخ 1 مارس/آذار 2010م تفعيل المجلس التشريعي ليقوم بواجبه بعد سنوات الشلل بسبب السجن بعد التأكد من أن النصاب القانوني لذلك قد اكتمل، وتم اتخاذ جميع الإجراءات القانونية لعقد تلك الجلسة تحت قبة البرلمان في رام الله وفي غزة عبر الفيديو كونفرانس، ودعا رئيس المجلس د. عزيز الدويك جميع النواب من جميع الكتل البرلمانية لعقد تلك الجلسة حسب القانون، كانت المفاجأة حين وصل هؤلاء النواب إلى مقر المجلس التشريعي في رام الله فوجدوا الأبواب مغلقة في وجوههم، وكان جواب الموظفين فيه واضحاً تماماً بأن مفاتيح الأبواب بيد رئيس السلطة!!
في مخالفة صريحة لكل الأعراف والقوانين الفلسطينية والدولية، وانتهاك صارخ لمبدأ فصل السلطات الذي يمنع السلطة التنفيذية من التدخل في شؤون السلطة التشريعية… وكنت شخصياً شاهداً على هذه الحادثة العجيبة، في مشهد لم نر ولم نسمع بمثله في أي مكان في العالم.
فاكتملت بذلك المؤامرة على المجلس التشريعي الذي كنا نظن أن الاحتلال هو العائق الوحيد أمام قيامه بواجبه الوطني والقانوني والشرعي.
هذه الحادثة تعطينا مؤشر واضح حول المسؤولية عن شلل عمل المجلس التشريعي، وتؤكد ما يعرفه الجميع من أن مفاتيح أبواب المجلس بيد الرئاسة يفتح ويغلق متى تشاء.
وهنا فإنه يحق لنا أن نتساءل عن دور مؤسسات المجتمع المدني من هذا الانتهاك الكبير، وماذا فعلت مئات بل آلاف المؤسسات والجمعيات والأحزاب السياسية ومؤسسات حقوق الإنسان ولجان حقوق المرأة…الخ التي تتلقى الدعم والتأييد من الدول الغربية وغيرها من أجل الضغط لرفع هذا الحظر عن المجلس التشريعي ليقوم بدوره الهام في الرقابة والمحاسبة والتشريع وإقرار الميزانيات؟؟
كم مسيرة نظمتها هذه المؤسسات أمام ديوان الرئاسة، وأمام سفارات الدول المانحة للضغط من أجل تفعيل المجلس التشريعي واحترام حق المواطن الفلسطيني الذي انتخب هؤلاء النواب بنزاهة؟؟
هل تخشى هذه المؤسسات من ردة فعل سلبية من الدول الداعمة لها؟؟ إن سكوت هذه المؤسسات وصمتها عن هذه الجريمة الوطنية يعطي مؤشراً على أن الدول الأوروبية وأمريكا الداعمة لها مشاركة في هذه الجريمة وداعمة للدكتاتوريات في بلادنا.
لقد أدى شلل المجلس التشريعي وإغلاق أبوابه في وجوه النواب وملاحقة النواب من قبل الاحتلال ومن قبل السلطة التنفيذية وأجهزتها إلى جريمة كبرى بحق الشعب الفلسطيني، فمن البديهي أنه لا يمكن لأعضاء أي برلمان أن يمارسوا دورهم وواجبهم دون فتح أبواب مقر البرلمان لهم، ووجود حصانة حقيقية، وحرية حركة ونشاط..
فالتشريع والرقابة والمحاسبة وإقرار الميزانيات وحل مشاكل المواطنين… لا تتم إلا من خلال مكاتبهم في مقر المجلس وفي مكاتب المحافظات، ومن خلال الموظفين الذين يساعدوهم في أعمالهم، ولكن في حالتنا الفلسطينية لا شيء من ذلك موجود، وبالتالى تم شل أيدي هؤلاء النواب عن ممارسة دورهم والقيام بواجبهم تجاه وطنهم وتجاه ناخبيهم.
لقد حرم المجتمع الفلسطيني بشكل عام والمواطن الفلسطيني بشكل خاص من الاستفادة من ممثليه في البرلمان، وتكرست حالة غريبة في المجتمع الفلسطيني: فمن المعروف أن المواطن عادة يحتمي بالنواب ويلجأ إليهم للحماية من انتهاكات وتعسف السلطة التنفيذية، ولكن في حالتنا أصبحت الصورة معكوسة فالمواطن أصبح يتهرب من النواب ويخاف من التواصل معهم لأن الاحتكاك بهم أو اللجوء إليهم أو مجرد زيارتهم ودخول مكاتبهم أصبحت تهمة تعرض صاحبها للعقاب والملاحقة من قبل السلطة التنفيذية!!
لقد تمكنت شخصياً من الخروج من الضفة الغربية بطريق المصادفة منذ حوالي سنتين، وحاولت جهدي أن أحمل رسالة المجلس التشريعي في كل الدول التي تمكنت من زيارتها، وشاركت في العشرات من المؤتمرات وورش العمل بصفتي النيابية وعقدت العديد من اللقاءات الصحفية والإعلامية.
ولكنني رغم ذلك أشعر أنني مقصر جداً في عملي البرلماني، فليست هذه الأنشطة هي التي انتخبني المواطنون من أجلها، وليست هي الوظيفة الأساسية لي كنائب.
طبعاً سنجد من يتدخل هنا كالعادة لينسب المسؤولية عن هذا الانتهاك الخطير إلى أحداث غزة المؤسفة التي حصلت منتصف عام 2007م، وهذا كذب وافتراء فمن المعلوم أن استهداف المجلس التشريعي بدأ قبل أحداث غزة بأكثر من عام، بل بدأ مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات وفوز كتلة التغيير والإصلاح الإسلامية بأغلبية كبيرة، ومن ذلك اعتقال معظم نواب الضفة الغربية على يد الاحتلال قبل أحداث غزة بعام كامل، وقضوا في السجن سنوات طويلة بعد تلك الأحداث المؤسفة.
بل هناك أدلة كثيرة وشهادات موثقة من مسؤولين كبار (من الصعب ذكرها في مثل هذه المقالة ويمكن معرفة تفاصيلها في كتاب -الديمقراطية الزائفة والحصانة المسلوبة- لكاتب هذه المقالة الذي نشره مشكوراً مركز زيتونة للدراسات) تؤكد أنه لا دور لأحداث غزة المؤسفة فيما حدث ويحدث للمجلس التشريعي، وأن أحداث غزة استخدمت كشماعة وتبرير لمجمل الانتهاكات التي حدثت للتشريعي أو غيره، وأنه لو لم تكن أحداث غزة أصلاً لما تغير الحال كثيراً.
بل إن كل متابع منصف يدرك أن أحداث غزة قد حُمّلت أكثر مما تحتمل، وأنها أصبحت شماعة كبيرة لتبرير مئات بل آلاف الجرائم والانتهاكات الخطيرة بحق الوطن والمواطن، ونرى أنه آن الأوان لهذه الشماعة أن تنتزع ويلقى بها في سلة المهملات، فقد عرف الجميع حقيقة ما حدث ولا زال يحدث في غزة.
أخيراً فإننا في هذه المناسبة ندعو لإعادة النظر في وضع المجلس التشريعي، وتحكيم العقل والمنطق والمصلحة الوطنية في إعادة تفعيله وعودة نشاطه وحيويته، ليس لأنه فقط يعبر عن ضمير المواطن الفلسطيني وقناعاته حين انتخبه بنزاهة وحرية تامة، بل لأن عودته للعمل والنشاط هو الضمان الحقيقي للمصلحة الوطنية واحترام القانون ووقف تغول السلطة التنفيذية وانتهاكاتها، وفي ذلك أيضاً وقف لشبكة الفساد والمفسدين، وعودة الرقابة والمحاسبة الحقيقية لمجمل التطورات والأحداث على الساحة الفلسطينية، ويمكن من خلاله تحقيق المصالحة الحقيقية ونهاية للإنقسام البغيض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.