يواجه الإسلام كدينٍ والمسلمونَ كأمة مأزقاً لا بدّ له من وقفة جادة لا مراوغة حولها.
يتحاشى بعضهم الحديثَ عنه ارتياباً وتوجساً من كل ما هو شائك وجديد في ساحة الواقع.. وذلك مظهرٌ جليٌّ وواضح من مظاهر الخور والضعف والهزيمة النفسية.
ولما خلَت الساحة ممن ينبه ويوجه ويتابع في مسألة "تجديد الخطاب الديني"، تأثّر بعضُ الشباب بالمفكرين والفلاسفة والمعلمين الروحانيين من رواد التصوف الفلسفي أمثال: غاندي، وزرادشت، وحمورابي، وأوشو، وبوذا وغيرهم من دعاة الحب والتسامح المطلق والتأمل والتفكّر والنظر إلى بواطن الأمور وغيرها من الشعارات المنمقة البرّاقة التي تستبعد الدين، وتلحد بالأديان، وتكفر بالله سبحانه.
وبعضهم اعتبروا أن الإله إهانةٌ للبشرية وصاحب الخطيئة الأولى، وهو تجارة القساوسة والرهبان والشيوخ. وزعموا أن الإنسان يلجأ إليه لشعوره بالنقص والحاجة إلى شيء معنوي يمسح به ذنوبه، فهم ينشدون رؤية جديدة للإله توافق رؤيتهم الجديدة للعالم الروحي وتتناغم مع الوعي الحديث. وآخرون تأثروا بمولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي وابن عربي والحلاج وغيرهم من أقطاب التصوف في الدين الإسلامي، وقد غاب عنهم أن أمثال هؤلاء يتحدثون حسب موجة عالية من التصوف والعشق الإلهي التي لا يفقه كنهها إلا أربابها.
وفي الحقيقة، هؤلاء المتأثرون لم ينظروا إلى الموضوع نظرة شاملة متكاملة، بل حملوا ما توافق مع أهوائهم "التطبيليّة" وأرخوا لعقولهم عنان التفكّر في اللامنطقيات التي تخالف العقل قبل الشرع، ورفعوا راياتٍ تحمل عبارات التجديد للخطاب الديني الإسلامي دون أن يفقهوا من الخطاب الإسلامي شيئاً، فهم لم يغوصوا في أعماقه، ولم يسبروا جهدهم في سبيل الفهم الصحيح لنصوصه وأحكامه.
وبناء على ما "طالعوه" عن الإسلام، اعتبروا أن نصوصه الأولى تدعوا إلى الكراهية والقتال وتمجيد سفك الدماء باسم الدفاع عن كلمة الله، والحقد على الأديان الأخرى، وأن نصوصه عفا عنها الزمن ولا بدّ من النظر إليها بعيداً عن التقليد والاتباع للسلف القديم والعلماء الأوائل أمثال الأئمة الأربعة.
واتهموا العقل العربي بالجمود حين يصل الأمر إلى الدين، وزعموا أن النصوص لم تعد صالحة للقرن الواحد والعشرين، قرن الحضارة والتطور والانفتاح.. وأن هذا الركود والجمود في فهم النصوص وبقاء رجال الدين سدنة لأفكار فقهاء العصر القديم هو السبب الرئيسي في ظهور داعش والإرهاب في أنحاء العالم.
لكن هؤلاء غاب عنهم شيء مهم جداً؛ أنهم وداعش وجهان لعملة واحدة في تآمرهما على الدين الذي يحاول أعدائه دائماً محاربته، فكلاهما تولى مهمة تبديد الدين بقصْر النصوص وجعلها تتناغم مع أهوائهم وميولهم، وباستدلالاتهم الخاطئة غير المنطقية والتي لا تمت للمنهج الاستدلالي الصحيح بصلة.
فأمست الجرأة على النصوص سهلة المتناول، يكفرون، يخطئون، يبدِّعون، يحرِّمون، ويحلّلون حسب أذواقهم المريضة العقيمة. تلك الجرأة التي كان السلف الصالح يخشها، فيتركون لأجلها ثلاثة أرباع الحلال خشية الوقوع في الحرام.
وكأنهم بذلك يريدون ديناً يتناسب مع "تفكّراتهم" و "تأملاتهم" التي لا تمت للإسلام في شيء. فالدين الإسلامي نزل موافقاً للعقل لا متحدياً له، بالرغم من بعض الأمور التي استأثر الله علمَ حِكَمها ليعلم المؤمنين منا والصادقين في عبوديتهم لله تعالى.
ولا بد من الإشارة هنا إلى وجوب العبادة وخلافة الأرض التي سخرها الله لنا كما يريد الله لا كما يريد الإنسان، فالله جل وعلا أرسل رسلًا وجعل من مهامهم أن يبيّنوا للناس كيف يعبدون الله جل وعلا، فكل عبادة ومعاملة في الإسلام بغير طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي عبادة لغير الله ولا يقبلها الله تعالى، ومن أتى بعده، كان لهم باب الاجتهاد مفتوحاً يصولون ويجولون ضمن حِمَمِه التي يجب صونها والحفاظ عليها وعدم التعدي عليها.
وبتلك المظاهر التي يدعون إليها، لم يعد للعبودية لله تعالى معنىً، العبودية التي تتمثل بالسمع والطاعة والامتثال لأوامر الله والاجتناب لنواهيه وإن لم يدرك عقلك المحدود الحكمة منها. فإن أردت أن تثور وتتمرد وتشق العصا، تذكر مراقبة الله لك، وسأل أهل الذكر عنها، وقل: علمتُ شيئاً وغابت عني أشياءُ.
حريٌ بنا أن نقول أن الفكر الإسلامي هو الفكر الوحيد الذى له القدرة الخلاقة على البعث والإحياء والتجديد، فهو الفكر الوحيد القادر على أن يجدد نفسه داخليًا، وأن يجددَ الواقعَ من حوله خارجيًا، لأنه فكر يجاري السنن الإلهية في الكون.
وهذا الفكر يتناسب طرديًا مع قوة الأمة الإسلامية وسيادتها، ففي عزّ الأمة وانتصارها وسيطرتها يكون فكرها أصيلًا، لا يقبل الزّيف أو الجمود، كما لا يقبل الذوبان في غيره. أما في حالة ضعف الأمة وهزيمتها، يصاب الفكر الإسلامي بالعقم والجمود تارة، وبالتبعية والذوبان في غيره تارة أخرى.
وإن صادفك حديثٌ قاله معلم البشرية محمد صلوات ربي عليه وسلامه: "يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، فاعلم أن هذا التجديد هو إحياءٌ لروح التعاليم الدينية المنسيّة وتذكير بالسنن المهجورة، وأنه كلّما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم دينًا، بعث إليهم علماء أو عالماً بصيرًا بالإسلام، وداعيةً رشيدًا، يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم الفتن، ويحذرهم من الوقوع فيما حرّمه الله تعالى، ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبتكر لهم أساليب ووسائل جديدة مشروعة من أجل غايات ومقاصد سامية في تطبيق هذا الدين والدعوة إليه.
فسمى ذلك: تجديدًا بالنسبة للأمة، لا بالنسبة للدين الذي شرعه الله وأكمله، فإن التغير والضعف والانحراف إنما يطرأ مرة بعد مرة على الأمة. أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينة له، قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون).
فهذا الإحياء -الذي سيتخذ قالبَ التجديد حسب وسائل دعوية جديدة ومعاصرة تحاكي التطور- مقبولٌ شرط أن لا يتجاوز النص، أو يخل بالقواعد والأصول، وألا يخرج عن التجديد للقواعد العامة، وألا يمتد إلى مسائل الخلاف التي لا طائل منها، ويجب أن يتوافق مع المصطلح الإسلامي وروح الشريعة والمنهج الصحيح.
وقد يكون شبابنا المجدِّدين الجُدد لهذا الدين في هذا العصر، بنشاطاتهم ومبادراتهم التوعوية في سبيل إعلاء كلمة الله، وإحياء دينه.. فهو تجديدٌ لما آل إليه حالنا، وإحياء لما كان في عصور الإسلام الأولى، ولكلّ عصر مقتضيات تُراعى ومتغيرات تقتضي الاجتهاد ضمن مقاصد وعلل نزل الإسلام لإرسائها بين الناس لتحقيق سعادتهم الدنيوية والآخروية. فكن مُجدداً لا مُبدداً، مُنصفاً لا متعسّفاً، مقتصداً لا مسرفاً، كي لا تنتهك تلك الحرمة المقدسة، حرمة العبودية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.