يقول الشاعر محمود درويش: "في الانتظار.. يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة..". ترقب حركة فتح ومعها الشعب الفلسطيني بحذر مرحلة قادمة يكتنفها كثير من الغموض، ويدور بشأنها وراء الكواليس أحاديث كثيرة، في اللحظة التي يغادر فيها الرئيس محمود عباس المشهد السياسي ويترك وراءه عرش السلطة الفلسطينية التي ربما تواجه أزمات قد تعصف بكيانها الهش، نحاول أن نفهم ما بين السطور شكل وملامح المرحلة القادمة، لكن يصعب ذلك لعدم وجود السطور التي تبحث في عرش الرئيس، حينها يذهب القلم لرسم كثير من الأسئلة بحاجة إلى كثير من الإجابات التي تعني كل فرد وفصيل في المجتمع الفلسطيني، في الوطن والشتات، في المدن والقرى والمخيمات وفي السجون والمعتقلات حيث الأسرى من كل ألوان الطيف الفلسطيني.
في النظم الديمقراطية لا يثير مثل هكذا تساؤلات أو مواضيع ذات علاقة بعرش السلطان، أية حساسية أو تشنج باعتبار أن طرحها أو نبشها مسألة طبيعية مرتبطة برحيل الرئيس أو الزعيم بعد انتهاء فترة رئاسته المحددة سلفا بنص الدستور، سواء لدورة أو دورتين كما في أغلب دساتير الدول الديمقراطية التي لا تجيز الترشح لأكثر من دورتين.
وحينها تتنافس الأحزاب في تقديم مرشحيها أو ترشح الشخصيات المستقلة دون أن يقلق ذلك منام الرئيس أو يستنفر أجهزة الأمن في الدولة، ذلك لأن الدستور هو من سيقلع فخامته من على كرسي الحكم، ومن الطبيعي أن يستيقظ في الصباح ليرى على مكتبه الصحف وهي تقدم صورا وبرامج المتنافسين والمرشحين.. أما في بلاد العرب حيث لا قانون ولا دستور ولا نظام، وحده ملك الموت من يستطيع أن يجعل ذلك الكرسي شاغرا.
في حالتنا الفلسطينية.. فإنه لاستشعار خطورة المرحلة القادمة، والشعور بالمسؤولية تجاه الشعب والقضية، كانت كتابة هذه السطور دون أن يكون للمناكفة أو المجادلة في هذا المقام أي مكان، ودون الدخول في مناقشة الشرعيات الفلسطينية واستحقاقاتها، فليس ذلك المقصود، إنما يدفع الهم والقلق كل مواطن أن يسعى لمحاولة استكشاف ملامح مرحلة قادمة ربما تبدأ في أي لحظة.
هي مرحلة يكتنفها الغموض في بقعة صغيرة لا قول فيها ولا فصل إلا إلى الاحتلال، الذي سيجتهد كثيرا لاستنساخ الحالة الجريحة في عالمنا العربي، حين تحولت عدوى الثورات العربية إلى عدوى الصراعات الداخلية وإشغال الشعوب بأنفسها، فأثبتت نجاعتها في تمزيق أوصال الوطن، وإليك ما يجري في سوريا والعراق وليبيا واليمن، هنا يزداد الحرص على وحدة الشعب الفلسطيني وعلى وحدة حركة فتح تحديدا، باعتبار أن المرحلة ستشهد كثيرا من حالات الشد والجذب والاستقطاب وتحريك مراكز القوة والنفوذ بين أقطابها وقياداتها وكوادرها.
تطرح هذه الورقة جملة من الأسئلة ما أصعب الإجابة عليها، وإن اجتهد أحد وأجاب عليها فما أصعب تطبيقها والتوافق عليها، هي من العيار الثقيل، ربما يرى البعض أن المساس ببعضها من المحرمات، لكن من الطبيعي أن تثار ويحتدم الجدل حولها حين يرتبط المصير والقضية والشعب والوطن بمصير الرئيس.
حقًّا.. ماذا بعد رحيل الرئيس محمود عباس؟ ماذا عن مصير السلطة الفلسطينية التي ارتبطت بشخص الرئيس وكانت الهيمنة والسيطرة واضحة على كل مفاصلها؟ ماذا عمن سيخلف الرئيس محمود عباس في منصبه، لا بل في مناصبه في ظل مرحلة ستشهد حراكا تنظيميا عميقا على موائد السلطان؟
ماذا عن حركة فتح، الواسعة الممتدة، فيها كثير من مراكز القوة والنفوذ وتتعدد فيها الولاءات لقيادات ورموز وازنة في فتح؟ كثير منها لا يرى نفسه أقل من منصب الرئيس، بين غزة والضفة والمدن والمخيمات والقرى، ما هو دور دحلان في المرحلة المقبلة، الذي سيحزم أمتعته إلى رام الله، وربما لا يمتلك أحد القوة لمنعه من ذلك، خاصة أن البعد الشخصي في خصامه مع الرئيس محمود عباس شكل جوهر الخلاف ومن الطبيعي أن رحيل أحدهما يعني بالنسبة للآخر بداية مرحلة جديدة؟..
ما هو مصير التنسيق الأمني مع الاحتلال الذي أوجد شرعيته وأعلن قداسته الرئيس عباس في الوقت الذي طالبت كثير من قيادات فتح بوقفه بل وإعلان القطيعة مع الاحتلال في ظل استمرار عدوانه على الشعب الفلسطيني، وانسداد الأفق السياسي؟
كيف ستتعامل حماس مع المرحلة واستحقاقاتها؟ وهل سنشهد وتيرة أخرى من التصعيد تحت عنوان الشرعية الفلسطينية، باعتبار أن رئيس المجلس التشريعي هو من سيتولى بحكم الدستور رئاسة السلطة لستين يوما يجري خلالها انتخاب رئيس جديد، مع الجزم أن الأزمة الداخلية الفلسطينية لا تنتهي بالتسليم لصناديق الاقتراع والالتزام بالشرعية الفلسطينية؟..
كما أعتقد أن الانتخابات ليست الحل السحري للخلافات القائمة، وليست هي ما سينهي حالة الانقسام الفلسطيني، ولا يمكن الخلاص من الحالة الراهنة الراكدة في رواسب الانقسام إلا عبر صيغة تصالحية تحقق الحد الأدنى من التوافق على كل مفردات واشتقاقات القضية الفلسطينية، وأهمها الموقف السياسي وبرنامج المقاومة وإدارة الشأن الداخلي الفلسطيني، كيف ستكون العلاقة مع باقي الفصائل؟ وما هو دورها في تخطي المرحلة وإنهاء الانقسام والتقارب مع فتح باعتبارها من يمسك بزمام الأمور في الضفة الغربية، وإن كانت الأزمة شكلا تبدو أنها فتحاوية داخلية لكنها من حيث تداعياتها وتفاعلاتها وارتداداتها هي أزمة تخص كل مواطن وفصيل، يفرض عليه الموقف الوطني والأخلاقي استنفار كل الحلول والطروح التي تسهم في إيجاد صيغة وطنية تحمي فتح من الانزلاقات إلى أتون الصراعات الداخلية التي لا تصب في مصلحة فتح ولا في مصلحة الشعب الفلسطيني، ماذا عن المقاومة، شرعيتها وسلاحها ورجالها وأسراها؟..
وما هو مصير العملية السياسية حيث لا أفق لها ولا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات؟ ثم ماذا عن شكل العلاقة مع الاحتلال اللاعب الأقوى في الساحة، الذي لا تعنيه فتح ولا حماس إنما تعنيه سلطة تحمي مكتسبات الكيان الصهيوني وأهمها التنسيق الأمني واستمرار الانقسام واستئصال المقاومة والحفاظ على النهج التسووي الذي يريح إسرائيل من ضريبة الاحتلال؟..
وهنا تكمن الخطورة على حركة فتح إذا حاولت تخليص الشعب الفلسطيني من هذا الموروث السياسي والأمني الذي أرهق الشعب وحرف بوصلة القضية، وتستطيع فتح تحقيق ذلك الخلاص من خلال قيادة وطنية لم تنسلخ عن تاريخها، بمقدورها أن تتبنى صيغة وطنية جامعة أول من يحميها حماس ومن خلفها كل مكونات الشعب الفلسطيني.
تخرج هذه القيادة عن النمط التقليدي للطبقة السياسية الحاكمة التي بلغت من العمر عتيا ووهن العظم منها دون أن تقدم جديدا في ملف الوحدة والمصالحة، بل وأكبر من ذلك في مسار التحرير وإنهاء الاحتلال والاستقلال.
لقد قاد محمود عباس الشعب الفلسطيني في مرحلة عنوانها الانقسام والتنسيق الأمني والحصار، واستمر الخطاب السياسي الرسمي طوال عقد من الزمن مسكونا بالحديث عن الانقسام والفرقة والأزمة، دون نبش ذاكرة العمل الوطني المشترك وترسيخها تعميقها وتأصيلها، والاتجاه نحو قراءة التاريخ بحثا عن العوامل التي تدعم الوحدة وليس بحثا عن العوامل التي تدعم الشقاق.
وليس لأحد كما لفتح أن تعيد توجيه المسار، في مرحلة هي بلا شك غامضة وتبدو ملامحها سوداء، لكن من عمق الأزمة يأتي الفرج، وربما تكون انفراجة للشعب الفلسطيني ليكون عنوان المرحلة الوحدة الوطنية وحماية ثوابت القضية، وأهمها القدس واللاجئون وتحرير الأسرى وفك الحصار وقيام دولة فلسطينية مستقلة ليس على حساب أي شبر من كامل تراب فلسطين، وليست من خلال التنازل عن حق أي لاجئ فلسطيني في العودة حتى وإن تآمر عليه العالم مرة أخرى وشردوه من اليرموك.
يحتاج ذلك إلى مسار عقلاني ناضج ينبعث من روح وطنية وعزيمة كبيرة قادرة أن تصوغ رؤية وطنية تدور في فلكها منظمة التحرير والسلطة والفصائل والبرنامج السياسي والمقاومة، رؤية واعية تُبنى على قاعدة تجمع عليها كل مكونات الشعب الفلسطيني.
متن القاعدة يقول: إن فلسطين بوحدة أبنائها وثوابت قضيتها وقيم النضال لأجلها هي الصيغة التي لا تقبل الخلاف، وما دون ذلك فهو خلاف مطلوب ومثمر في ظل الوحدة الوطنية، وأما الخلاف على الوطن والانتماء لكل ما يعنيه الوطن فتلك جريمة نكراء، وهذه الصيغة لا تكون إلا إذا كانت الوحدة، نعم: ولتكن جرعة الحديث عن الوحدة وإنهاء الانقسام في هذا المقام زائدة، علينا أن نعترف بأن المشهد السياسي القائم بجموده وركوده لا يخدم فتح ولا حماس قطبي الساحة الفلسطينية، فلا يخدم الأولى في مسارها السياسي، ولا يخدم الثانية في طموحاتها ومشروعها المقاوم.
لقد مرت شعوب وأمم كثيرة في مراحل دموية طاحنة من تاريخها، لكنها أرست سفنها في ميناء الوحدة أمة ودولة وشعبا، فسجل التاريخ أن بسمارك من أهم الساسة الألمان في القرن التاسع عشر، وتم تدوينه في تاريخ أوروبا والعالم بـ"موحد ألمانيا"، وقد صنع تلك الوحدة خلال عقدين من الزمن رغم أن الظروف الدولية توحدت ضده آنذاك، صنعها بمرارة لما أعلن أن المشاكل والقضايا المهمة لا تحل بالخطب بل بالدم والحديد، نعم هي ألمانيا التي كان يحكمها أربعون ملكا، وكانت مشكَّلة من أربعمائة ولاية ثم جعلها نابليون ثمانية وثلاثون ولاية، كما دون التاريخ أيضا ديغول بالأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، الذي قاد بلاده إلى الاستقلال من الجيوش النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، إذاً هي مسيرة العبور إلى الأمة الواحدة التي قادها قادة وزعماء دأبت ريشة المؤرخين وأقلام الكتاب على نعتهم بالعظماء. هكذا هم لأنهم وحَّدوا بلادهم فخلد التاريخ ذكراهم ولأنهم كذلك كانوا عظماء.
في واقعنا الفلسطيني لا يوجد ما يشير إلى أن الرئيس محمود عباس يتجه إلى أن يدون التاريخ الفلسطيني أنه من أعاد الوحدة الفلسطينية، الانقسام الفلسطيني طال عمره، وبعدت مسافات الوحدة الوطنية، مع أنها بعيدة قريبة، لا تحتاج إلى الدم والحديد، لكنها تحتاج إلى إرادة السياسية تترجم إلى قرار سياسي، الانقسام الفلسطيني ليس طائفيا ولا مذهبيا ولا عرقيا.
وإذا كانت مظاهر كثيرة الآن هي عنوانًا للانقسام أو إفرازًا له فإن هناك عناوين أكثر ما زالت تمثل الوحدة ولا يمكن لها إلا أن تبقى كذلك، مهما تجذر الخلاف أو طال عمر الانقسام، تلك هي البيت الفلسطيني أولا، الذي يحوي تحت سقفه الواحد في كثير من الحالات أكثر من لون حزبي وتنظيمي وفكري، هي السجن والمعتقل والمعاناة والروابط الاجتماعية وكل شيء في حياتنا اليومية، ناهيك عن عوامل أخرى مثل اللغة والتاريخ والوطن التي وحدت شعوبا مختلفين في أعراقهم وأديانهم وثقافاتهم، فما بالك ونحن أبناء دين ولغة وتاريخ وديار جمعت بيننا، بل وحتى جمعتنا مع الإخوة المسيحيين رغم اختلاف جزئية الدين والاعتقاد.
هي جملة من التساؤلات، في ثناياها كثير من الهم والخوف على مصير شعب وقضية، ناهيك عن تحديات أخرى، فما أكثر المفاجآت في ساحتنا الفلسطينية، لكن ما أجمل أن تكون النهاية كما هي البداية، بقول بليغ للشاعر الكبير محمود درويش: "أن تكون فلسطينيًّا يعني أن تصاب بأمل لا شفاء منه".
الاعتماد على الله أولا ومن ثم الرهان على وعي وإدراك أبناء شعبنا الفلسطيني.. هما الأمل لعبور هذه المحطة دون دماء وأشلاء، ودون تفريط بأي من مكتسبات الشعب الفلسطيني، ودون تفريط بوحدة حركة فتح، كما دون تفريط بأي من الثوابت الفلسطينية كثمن سياسي للجلوس على كرسي الرئاسة أثبتت ثلاثة وعشرون عاما من عمرها لا بل جل عمرها أن كرسي الرئاسة ذلك ليس له من اسمها نصيب.