يناير.. من أي شيء نخاف؟

لا الحرية تُوهب ولا الحقوق تُمنح ولا التغيير يُعطى مناولة.. إما أن تثبت جدارة أو فلتنضم إلى قائمة محبطين كثيرين سبقوا ولم يعد التاريخ يكترث حتى بذكر أخبار محاولاتهم.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/25 الساعة 08:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/25 الساعة 08:12 بتوقيت غرينتش

تشكلت لدي قناعة ازدادت رسوخا عبر الأعوام الماضية، مفادها أن التغيير الجذري والحلول الحاسمة والمعارك الصفرية كلها مرادفات لمفهوم "الطفرة"، تُحدث في بدايتها صخبا عاليا يخفت بعد ذلك تدريجيا بنفس خفوت أثر حجر يقبع في أعماق النهر الآسن بعد محاولة عابثة لتحريك سطحه الراكد.. أما تغيير مجرى النهر ذاته فبالتأكيد شيء مختلف تماما!

لست أرى الذي ألقى بالحجر مخطئا ولا عابثا، بل هو عبر عن رغبة حقيقية في التغيير، وتلاه ثانٍ وثالث ثم آلاف فملايين كلهم يلقي بكل حجر تطاله يده دون اتفاق مسبق ليصادف نفس صفحة الماء الساكن.. ربما اضطرب النهر من المنبع إلى المصب، وربما تعانقت على سطحه أمواج لم يرَ لها مثيلا من قبل.. لكنها في النهاية -وإن كانت ثائرة- ظلت أمواجا لم تصل إلى شكل التيار المستمر القادر على تحويل المسار.

اعتدنا على جدل يصاحب الحديث عن الخامس والعشرين من يناير، كلما اقتربت ذكراه على مدى السنوات الخمس التي تلت الثورة، ما بين انقسام على طريقة التغيير ورفض متبادل بين البرلمان والميدان في الذكرى الأولى، ثم حشود متضادة من معارضي التيار الإسلامي ومؤيديه إبان حكم الإخوان في الذكرى الثانية، ثم ميدان امتلأ بمن أبغض يناير وثورته من أعماق قلبه في الذكرى الثالثة ثم زيادة في مساحة العداء والتحريض على كل ما تمثله ثورة يناير ورموزها في الذكرى الرابعة.. الشيء الوحيد المشترك ربما هو التخوين! لم تخل أجواؤنا يوما منه.

وإن تعجب، فعجبٌ وصفهم على أغلب الشاشات وصفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية لثورة يناير بالمؤامرة، وهي التي قد ذُكرت بالثناء والتقدير نصا مباشرا واضحا في الدستور المصري المعدل الذي تلقاه بالقبول ملايين المصريين كما تؤكد الرواية الرسمية، والدستور كما نعلم عقد اجتماعي ينظم علاقات المصريين البينية ويضبط إيقاع تفاعلاتها.. وبغض النظر عمن ارتبطت أسماؤهم بأحداثها، فلم تكن ثورة يناير إلا تجسيدا للحد الأدني من تلبية حاجات الإنسان المصري كما حاول التعبير عنها المشرع المصري المُنتخب في العام 2012 ثم المُعين في العام 2014.. والتفرقة هنا مقصودة وتحمل معاني كثيرة!

تفصيل ما حدث في يناير وما تلاه وما ترتب عليه متشعب متشابك، تختلط فيه النوايا الصادقة بالانفعالات الجارفة وتضيق فيه المسافة بين المؤامرة وسوء التخطيط وأمور أخرى.. فلننحِ ذلك كله جانبا ولنسأل السؤال بشكل مختلف، هل استيقظ المصريون يوما قبل خمسة أعوام من الآن وقد قرروا أن يفتحوا على أنفسهم أبواب الجحيم دفعة واحدة دون سبب واحد منطقي؟ هل عاني المصريون السأم بعد عصور من الرفاهية وانتشار العدل وارتفاع مستوى التعليم فقرروا تمردا على أوضاعهم من باب كسر الرتابة ودفع الملل؟

لكن الفارق دائما شاسع جدا بين "الرغبة" في التغيير والتي توافرت عند أغلب أبناء هذا الجيل على اختلاف انتماءاتهم وبين تحويل هذه الرغبة إلى "إدارة" متكاملة للتغيير.. إدارة تحتاج إلى امتزاج المعرفة بالصبر والخبرة بالمرونة، وقبل كل ذلك الرؤية التي تستشرف الهدف النهائي من التغيير بالنموذج اللازم لتحقيقه.

لأسباب كثيرة لم نتحول بالمسار الثوري من مجرد إرادة إلى إدارة ترسم لنا خارطة طريق نعبر بها الفجوة بين الواقع المتردي والمستقبل المنشود؛ وهو تحديدا ما يطلق عليه علماء الإدارة اسم (إدارة التغيير Change Management ).

إدارة التغيير لا تتوقف على توافر الرغبة، بل هي عملية شديدة التنظيم تحتاج إلى خطة زمنية وقرارات مدروسة وصبر على النتائج و تفهم لكلفة القرارات؛ هذا لو كنا ننشد تغييراً جذرياً يتناول أصل المشاكل المزمنة بالتحليل، ومن ثم إيجاد الحلول على المدى القريب والبعيد.. وما كانت الثورة وحدها لتنفذ ذلك كله لمجرد أننا عبرنا عن مشاعر الغضب والألم بأبلغ وسيلة ممكنة.

ولا أجد تفسيرا لمشاعر الإحباط الصادقة التي تنتاب اليوم كثيرا من أبناء هذا الجيل تحديدا وقلة من أجيال سبقتهم تعاطفت معهم إلا الذهول عن هذا الفارق بين "الإرادة" و"الإدارة".

هل اعتقدتَ يوما أن أحدا سيساعدك لتحقيق ما حلمت به من تغيير؟ هل تخيلت أن الدنيا ستتكاتف من حولك لتنفيذ رغبتك في الإصلاح؟ تظن أن الجميع تآمروا عليك ليغتالوا طموحك ويطأوا زهرة شبابك؟ لا أريد أن أبدو سخيفا لكن من فضلك اقرأ كثيرا وأنت تبحث عن إدارة التغيير حول مصطلح "مقاومة التغيير" Resistance to Change

لا الحرية تُوهب ولا الحقوق تُمنح ولا التغيير يُعطى مناولة.. إما أن تثبت جدارة أو فلتنضم إلى قائمة محبطين كثيرين سبقوا ولم يعد التاريخ يكترث حتى بذكر أخبار محاولاتهم.. اصبر، تعلم من الأخطاء، قرر أن تتنازل لبرهة من الوقت، كن أطول نفسا من أعدائك، احمل نفسك على العمل مع من تختلف معهم، اقبل ببدايات الطريق، ناور بذكاء، اسكت حينا وتكلم حينا.. كان عمر بن الخطاب يقول "أشكو إلى الله جَلد – يعني صبر وقوة تحمل- الفاجر وعجز الثقة".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد