يخطئ من يتصور أننا نحتاج الخيال والإبداع في الأدب والأعمال الدرامية والسينمائية فقط.. فنحن نحتاج الخيال والإبداع في كل مناحي الحياة، علاقتنا الإنسانية، تعاملاتنا الاجتماعية، قبولنا للآخر، ويأتي على قمة هرم الخيال والإبداع رؤيتنا السياسية وكيفية تسيير شئون الحكم.
والمتابع للحياة السياسية في مصر يرى أن آخر شذرات الإبداع والخيال كانت على يد الرئيس الراحل أنور السادات -رغم اختلافنا معه- حيث إنه كان يملك قدرة مختلفة على المناورة السياسية وبرغم مجيئه بعد رئيس ذي شعبية طاغية وكاريزما لا تتكرر، إلا أنه استطاع أن يخلق لنفسه لغة متابينة لخطاب الجماهير تتناسب مع شخصيته ورؤيته السياسية.
ولكن جاءت الحقبة المباركية لتقضي على بقايا هذه الشذرات وعبر ثلاثين عاما من الجمود تم قتل كل قيمة للخيال والإبداع تحت لافتة متلازمة بدأت بـ "الاستقرار أسلوب حياة" وانتهت بتخيير الشعب بين مبارك ممثلا للاستقرار وبين الفوضى في غيابه.
والعجيب في الأمر أنه بعد غياب لمبارك ما يقرب من خمس سنوات قامت خلالها أعظم ثورة في تاريخ مصر الحديث ومعه أكبر انقلاب عسكرى أيضا إلا أن مؤسسات الدولة التي تقودها الآن سواء أمنيا أو سياسيا أو إعلاميا تثبت كل يوم أنهم ما زالوا يعيشون مرحلة موت الخيال والإبداع..
والأمثلة لا تحصى أقربها للتذكر ذلك الموجه بالتربية والتعليم الذي أتوا به ليمثل دور الفلاح أمام السيسي في احتفالية تدشين مشروع المليون ونصف فدان في تكرار مقيت لنفس السيناريو حينما أتوا بمخبر بجهاز الشرطة ليمثل دور الفلاح أمام مبارك أثناء حملته الانتخابية عام 2005..
مع أن قدر بسيط من الخيال يستوجب إحضار أحد الفلاحين الحقيقيين الحاصلين على مؤهل متوسط أو عال ويمارس مهنة الزراعة بالفعل -وهم كثير- وتدريبه جيدا للوقوف أمام السيسي ليبدو للناس أن ثمة شيء ما قد تغير في مصر.. البعض علق على هذه المأسأة بأنه نوع من الاستسهال ولكنه بالتأكيد عدم القدرة على الرؤية خارج الصندوق لجيل ولد وتعلم وعمل طيلة حياته داخل صندوق قتل الإبداع.
وفي ملحمة أخرى للتدليل على قتل الإبداع والخيال يهل علينا يناير/كانون الثاني من كل عام ليحمل لنا أبهى نموذج على موت الخيال.. فكلما اقترب الاحتفال بذكرى ثورة يناير أخرج لنا هؤلاء العجائز -فكريا- من جرابهم أدوات العمل التى يستخدمونها كل عام.
فما يتم الآن من سلسلة لأحداث عنف استهدفت السياحة في القاهرة والغردقة ومقتل عميد شرطة (في المرور) مع أنه جهاز لم يقتل أحدا أو يعتقل أحدا وخروج بعض الساسة من رف الذكريات وخروج مبادرات تهدف للتهدئة ما هو إلا تكرار لما يتم في مثل هذا الوقت من كل عام يهدف إلى توجيه ضربة استباقية للحراك المتوقع وخاصة بعدما أثبت النظام فشله الذريع في كل مناحي الحياة..
السيناريوهات الفاشلة بدأت من تفجير مديرية القاهرة صبيحة 25 يناير/كانون الثاني قبل الماضي في مشهد عبثي، حينما قام أحد الاشخاص بوضع سيارته بجوار المديرية وتركها أمام الجميع في وقت كان غير مسموح بمرور الذباب أمام أقسام الشرطة عله يكون مفخخا ثم تلاحقت بعدها وضع وتفجير قنابل في أماكن وتوقيتات تدل على عته وحماقة أي إرهابي يمكن أن يفجرها بنفس الحيثيات.
والحقيقة أن تكرار الأحداث بنفس سيناريوهاتها يجلب النفوس على الملل وعدم القدرة على متابعة المشهد وأولى لهؤلاء الذين يقودون الحياة السياسية والأمنية في مصر أن يستعينوا بمن لديهم القدرة على التجديد حتى ولو بالاستعانة بخبراء أجانب على غرار فرق كرة القدم.
وللإنصاف في النهاية يجب أن نؤكد أن الثوار أو المقاومين هم الآخرون يعانون موت الخيال والإبداع سواء في العام الذي حكموا فيه ولم يخرج ما يؤكد أن هناك عقولا لديها القدرة على الإبداع أو حتى بعد وقوع الانقلاب، فعلى مدار ثلاث سنوات من المقاومة والتضحيات الغالية التي قُدمت، إلا أن الحراك الثوري لم يشهد أي نوع من الابتكار والتجديد.. فهل مصر الولادة دائما في حاجة إلى إزاحة كل من يتصدرون المشهد في الجانبين لإتاحة الفرصة أمام جيل يملك فنون الخيال وحنكة الإبداع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.