في بلاد العرب التي ارتبط أهلها فطرياً ووراثياً بالمسجد وشيخه وإمامه.. وأحبوا تلاقي الأرواح وتجلي الإيمان ومعاني الأخوة في ظلاله..
حتى ما عادوا يفرقون بين حبهم للمسجد والقرآن وربنا سبحانه، وحبهم للإمام والشيخ والمؤذن.. وصار الربط بينهما عالياً وخطيراً يصعب أمامه غير التسليم المطلق لرأي الشيخ في القضايا المعاصرة، وهي في غالبها اجتهادات في تفسير النص محسنين الظن فضلا عن الاجتهادات التي لا نص فيها.
وصرنا نتحدث عن أقوال المشايخ وخلافاتهم أكثر من حديثنا عن كلام الله ومقاصد القرآن الجامعة المانعة وكفاح الأنبياء..
كان يصعب في تلك البيئة حتى أمد قريب أن يجرؤ شخصٌ حدَث الأسنان قليل شعر اللَّحْيِ .. أن يعترض على بعض اجتهادات الإمام، أو منهجه أو أسلوب تعامله أو حتى ملافظ دعائه..
يرفع شيخ مسجدنا -وهو شخصية مركبة هنا تمثل الكثير من أئمة المساجد- يديه في صلاة التراويح مُؤذنا ببدء التغيير، وفتح أبواب القدر، وكسر الشرور، وتحرير الطاقات الكامنة كما عرفنا الدعاء في سير السلف والعظام الفاتحين.
ثم يبدأ بتسميع تلك الأسطوانة التي لا يفهم في الغالب كثيراً من حقيقة معانيها.
وبعيدا عن أخطاء كثير من المشايخ في نطق بعض الدعاء المأثور بما يغير المعنى ويحرفه، أو اللحن الفاحش البين وكسر القواعد اللغوية، ومخارج الحروف الأعجمية، أو حتى الدعاء بما لا يقبله المصغي بانتباه.. كقول أحد المشايخ مرة في دعائه لأحد الأئمة الولاة: "واجعلنا اللهم كلباً من كلابه".. في حماسة مفرطة دعت الناس للتأمين بحماسة مماثلة!
بعيدا عن كل هذا.. فقد كان يستفزني جداً ويخرجني عن طور الخشوع حجم تلك السلبية المقيتة الناسجة شباكها على ظهر الإمام والواقفين خلفه في مقدمة الصفوف..
وهم إن كانوا أحسن منا ربما في موازين الإيمان، والبعد عن معاصي المخالطة والتعامل، إلا أن هذا لا يعصمهم عن نقدنا، ولا يجعل منا متطاولين على مقامات الإيمان ولا على شخوصه باعتراضنا عليهم..
– يقول الإمام في دعائه على المحتلين والغزاة: "اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وبديع قوتك" ثم بعد التسليم يعود لبيته منتظراً حدوث زلزال ما، أو عاصفة، أو طوفان كطوفان نوح، أو ريحٍ تمحو كيان الصهاينة عن وجوده، وتقلب عروش الظلم وتدفئ في ذات الوقت لاجئي الشام والعراق.
ينسى الإمام هنا أنه هو عجيب صنع الله، وأننا نحن بديع قوته، وأدلة وجوده، وخلائفه على الأرض..
كنت أضيف بعد أن ينهي الإمام تلك السلسلة من الاستغاثات: "اللهم بنا اللهم آمين"
إيمانا لا ينقطع أن تخلفنا عن ركب الحضارة نابع منا نحن، ومن سلبيتنا ومن عجزنا وقعودنا وركوننا للدعة والرفاهية.. لا من توقف عجائب الله ومعجزاته.. التي تناصرنا بعد استنفاذ كل الجهد والإعداد.
يأبى عدل الله -يا شيخنا إمام كل مسجد- أن ينصر عباده وهم قاعدون ولو أحبهم..
وينصرُ عدل الله وقانونه أمماً نشطت في فكرتها، واحترمت عقولها، وإرادة شعوبها ونقدت ذاتها ولو لم تؤمن به.. والآخرة للحساب الأكبر..
وكنت هنا أتقطع في داخلي شراذم حارة ساخنة؛ وأنا أرى الناس حولي تتأثر حماستها في التأمين بمدى حماسة الإمام بالدعاء لا بالملافظ التي مر عليها والأدعية التي قالها والمفاهيم التي ينشرها من خلال الدعاء.
الجمهور المؤمن الواعي يرفض دعاء الإمام إذا دعا للظالمين بتقليل وتيرة التأمين وحماسته، كما يرفعها بإخلاص حال الدعاء للمظلومين والأوطان المحتلة.
كما أنه لا يتأثر بشكل كامل بحماسة الإمام، بل يعبر من خلال صدى تأمينه عن تأييده لدعاء على حساب آخر.. ويقوم بالإضافات بصوت عالٍ، ويسكت عن التأمين على خطأ، أو يعدل نيته ويأمّنُ بعدها.
ثم إنه إذا لم يعجبه كل جو الدعاء ويأسه وانعدام روحه، يبدأ بالدعاء وحده ويدعو للمسجد وشيخه معه، وللأمة، ولنفسه راجياً من الله أن يدله على طريق كسر هذا العجز المخيّم والكسل المتراكم، والخوف المقيت..
ثم هذا الجمهور الواعي يختار مشايخه، ويتعب في التحري عنهم، ولا يبحث فقط عن الصوت الجميل في الصلاة، بل عن استحضار روحها في القراءة وعن معاني الدعاء التي يطرحها الشيخ في صلاته.
ثم هو إذا ختم الصلاة مر على الشيخ، وقبَّل رأسه، وقال له "لم تذكر كذا يا إمام" أو "لم تدعُ للمسجد الأقصى ثلث عقيدتنا المحتلة" وعلى غراره مما يساعد الشيخ على استحضار وجود هذه الهمم التي لم تمت في المصلين خلفه.
والحقيقة أن هذا السلوك تراكم عندي منذ الصغر يوم علمتني أمي الزيادة على قول الشيخ إذا دعا على أبناء ديانات أخرى أن أقول: "الظالمين منهم"..
فتطورت الفكرة وبدأتُ أضيف على أغلب الدعاء إلا عند شيخ عالم بمقاصد الدين على حقيقتها فأسعد به وأرجو الله أن يقبلني معه لاحقاً بركبه مثقلاً بالخطايا.
وهذا واجب كل أم وأب ومعلم وشيخ تجاه من تحتهم..
– يقول الشيخ الإمام: "اللهم عليك باليهود والنصارى والشيعة والعلمانيين" فأضيف : "المعتدين منهم اللهم آمين".
– يدعو الإمام: "اللهم عليك بالكفار" فأضيف: "من كفر بإنسانيته أو تبين له الحق وأنكره.. اللهم آمين".
– يقول "اللهم وفّق فلانا" فأقول "إن أراد الحق.. اللهم آمين".
– يقول: "اللهم اخذل فلانا ومكِّن منه" فأقول "إن أراد الظلم وخذل الحق.. اللهم آمين".
– يقول: "اللهم أدخلنا الجنة" فأقول: "الفردوس الأعلى بكرمك اللهم آمين".
– يقول: " اللهم اعصمنا من الدرك الأسفل من النار".
فأقول: "من النار كلها ومن عذابك.. آمين".
– يقول: "اللهم أعد علينا أيام السلف الصالح" فأقول: "أعد علينا مجدها وفتحها واحترام الإنسان فيها لا شكلها فقط.. اللهم آمين".
وهكذا دواليك.. في معركة توازن طويلة بين طموح عالٍ بما عند الله، وإيجابية مطلقة في قدراتنا، ووعي ناقد لحالنا..
أبدأها بنفسي، لوحدي في جموع من المصلين حولي.
.
ثم قبل ختام الدعاء أردد:
اللهم آمين.. أرنا عجائب قدرتك، وبديع قوتك، وتجليات نصرك، وسننك في خلقك..
اللهم آمين.. على كل ما قال الإمام.. بكل حرف نطقه.. بكل تأمينة رددها الصالحون حولي..
على غير ما قصدوا وعلى غير ما قصد!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.