كلُّ من سرج جواد العزم من أجل المضي في تشييد صرح فكري خاص أو بناءٍ معرفي متين.. لا بد معترضة له تحديات ومطبات تدفعه للمساءلة المستمرة ولمراجعة منطلقاته وسقفِ أهدافه ولتمحيص شعاراته وغاياته، فكل مطب يشرف على منزلق أو منزلقات إن هوى فيها الباحث وطالب العلم حادت به عما رجاه في بداية المسير.. وتلافي التعثر بتلك المطبات يستلزم دائما اليقظة وأحيانا الوقوفَ أمام اختيارات صعبة تجعل الرضا بالحسن دون الأحسن ضرورة حتمية.. فتلكم بعض مطبات أعالج وأكابد شيئا منها شخصيا، أقتسمها معكم، فربما ما نظنه شخصيا جدا يكون في كثير من الأحيان مشتركا ومشاعا فوق ما نتخيل.
يتجلى المطب الأول، في داء الانصياع لغواية الكم، على حساب الكيف طبعا، إذ تنساب النفس وتنساق إلى الجري وراء سراب الكم وتراكم الشيء لأنه بالنسبية لها مؤشر على الزيادة والنماء واضحٌ ملموس، بخلاف الكيف السائل الذي يصعب تتبع نموه ورصد مستواه.. وفي البناء المعرفي، يتجلى هذا في نطاق القراءة أيما تجلٍ، فتسقط حصون الإضافة الفكرية والتأمل العقلي في المقروء أمام مدفعية الهرولة لإتمام الكتاب لأن الآخر ينتظر. بل أثناء قراءة الكتاب تتسلل العين لرؤية رقم الصفحة التالية كلما تم الانتهاء من التي قبلها ويقارن العقل بين كمية الصفحات التي تم "الفكاك" منها وتلك الأخرى المنتظرة في الضفة الأخرى، وقلَّ أن يفنى العقل في المضمون فلا ينتبه للتقدم الكمي في القراءة. وقد يضع إنسان عدادا لمقروئه الشهري مثلا من الكتب ولكن يندر أن يتشجم عناء المساءلة العقلية في الإضافة المعرفية والفكرية لهذا المقروء، لأنها أصعب..
من ينهشه داء الكم هذا لا يبدأ كتابا دون أن ينهيه إلى الصفحة الأخيرة حتى لو كان دون تطلعاته ولا يجيب على انتظاراته (هذا إن كانت له انتظارات وتطلعات طبعا)، لأنه يخشى أن يفوته شيء فيه أو لأنه يتردد أن يضيف إلى عداد الكتب المقروءة كتابا لم يقرأه عن بكرة أبيه.. والمشكلة في داء الكم "المقروئي" أن لذة الانتهاء ومتعة رف كتاب في الخزانة وأخذ آخر تقمع الوعي الذي ينادي بالكيف والاستغراق والاتساع الأفقي بدل التراكم الشيئي.. ومن نافلة القول طبعا، التذكيرُ بأن الكلام هنا عن المتعلم الصادق الذي يتصارع مع داء الكم العضال هذا، وليس الحديث عن المتعالم المتظاهر الذي همه الدفين مكتبةٌ يباهى بها الزوار أو قائمة منشورة لكتبه المقروءة على مدار السنة في صفحته على الفيسبوك..
والمطب الثاني الممسك بتلابيب كل سائر في طريق البناء الفكري الذاتي هو التوفيق بين مصدر الرزق والاهتمام المعرفي، فقلَّ أن يجتمع للمرء هذان الأمران ويمتزجان في شيء واحد، فيكونُ مشروعه الفكري أو المعرفي موردَ رزقه في الآن نفسه، فهو مضطر لصرف جزء من وقته وجهده فيما يحقق له مدخولا قارا يكفيه السؤال ويعفيه من استجداء المعيل، بل اضطراره لهذا الأمر هو أيضا من جهة التفرغ الذهني -ولو الجزئي- لبحثه ونشاطه الفكري، إذ لا يُتصور ممن تؤرقه ضروريات العيش أو يقض مضجعه طول سنوات مكوثه في بيت أبيه كمعول أن تجد الأفكار والنظريات والمعلومات مستقرة في رأسه إلى جانب تلك الهواجس. والأمر لا شك أنكى وأشد إن كان متزوجا أو رب أسرة.. والتفرغ إذ إنه غير متاح إلا نادرا (كحالة الطلبة الجامعيين رغم أنه مؤقت وكحالة الميسورين..) تصبح التضحية به كونَه شرطا للعمل على المشروع المعرفي الشخصي ضروريةً ومن متطلبات الواقعية اللازمة أثناء تحديد سقف العمل وغايات ذلك المشروع..
ويتولد عن هذا المطب كذلك، كيف يبقى السعي وراء الرزق متركزا في حدود تأمين الحاجة والعفاف والاستقلالية المادية ولا يتعداه ليصبح المال هدفا في ذاته، ذلك أن السعي وراء المال وتنميته مركوز في النفس البشرية وليس من اليسير لجم جماحها عن حب التكاثر المفطورة عليه..
والمطب الثالث والأخير هو تلك المصيدة الكبيرة أو قل ذلك القِدر المخصص لسلق المثقفين والمفكرين. فالزمان زمان السرعة والفاست فود ونجوم الطرب والفن الذين يتم سلقهم في برامج كثيرة لا تختلف إلا في أسمائها، وصاحب المشروع المعرفي والمثقف معرض أيضا للسلق أو كما قالت العرب قديما، لِأن يتزَبَّبَ قبل أن يَتَحَصْرَم.. فمن يكتب جملة أو يرص عبارتين فيجد نفسه بإعجاب صديق وقدرةِ معلق شخصا فذا ومفكرا رصينا يحدِّث بالحكمة وينطق بالرشاد تتقاطر عليه الإعجابات والتهاني، أَتُراه يصبر على كتابة سطرين دون أن يعرضهما على جمهور المطبلين، أتُراه يستطيع أن يكتب صفحة ثم يرمي بها في القمامة بعد أن يثبت له بالتأمل تهافت ما كتبه فيها، أتراه تبرق في ذهنه الفكرة فيحللها وينتقدها قبل أن يزفها للمتتبعين..
والتحدي الذي يتمخض عن هذا المطب هو كيف لا يقع صاحب المشروع المعرفي المبتدئ في قدور السلق هاته المتمثلة خصوصا في المواقع الاجتماعية، ويحددُ كيفية التعاطي معها ويطور كفاءة التعامل مع إشكالها هذا بصيغةٍ تقيه الذوبان في المجد الواهم وتمنحه إمكانية الحضور القوي والمشاركة الفاعلة في هذه المواقع في الآن ذاته..
لا شك أن تجاوز هذه المطبات وحسم طرق التعاطي معها يعد خطوة مهمة في الطريق، ولا حسم أو تجاوز دون شيء من الحزم والقدرة على الاختيار الصعب والتنازلِ عن بعض من حظوظ النفس الآنية مقابل ما هو دائم وذو قيمة حقيقية..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.