ذاك السابع من يوليو/تموز من العام الثاني عشر بعد الألفين، كان الدافع لأن أعد حقيبة تحمل من لوازم التدوين أقل وزناً لجمع المعلومات بغية إنجاز أحد البحوث الميدانية في علم الاجتماع. كانت لي رغبة وفضول كبيران للبحث في نظم ومكونات اجتماعية واقتصادية بسيطة، ببوادي قبائل إداوتنان بسوس في الرقعة وسط – جنوب المغرب، النظام القبلي هنا جد بسيط يؤثث هذا العالم الصغير بشريا والشاسع بمرتفعاته وهضابه، نحن الآن بعيدون عن جلبة الإنسان وضجيجه الذي اندمج مع الآلة والشاشات التفاعلية والشوارع المكتظة بسيارات الصفير والزمير، العالم هنا يسير ببطء بالغ، وكلما تقدمت إلى الأمام توغلاً، أتخلى عن سجيتي التي عهدتها بين الشاهق من المباني في قلب العواصم البشرية بوطني ، أما الرقعة التي تطأها قدماي اللحظة، فهو الوطن بنكهة النسيان وغبار الماضي الذي ما زلت أستنشقه، مرحِّبا في وطن طرد من قطار الزمان والتطور أو بالأحرى تم الإلقاء به خارج الحضن الدافئ للنمو في كنف القساوة، حقًّا في وطني أوطان لا تعرف بعضها بعضاً.
لقد حدثوني في مدرجات الجامعة وصفوف الثانوية عن كتلة محترمة من المخططات التنموية، تحمل من التسميات تنوعاً بقدر ألوان الطيف، ومنها ما جعلني أحسب أن البلد صار كله رقعة خضراء، جراء ترويج إعلامي وصورة تسويقية تنهج "التطبال وسياسة البندير" لتبين أن كل شيء على ما يرام هنا وقد طبقت الدواليب المسؤولة كل ما أنيط بها من مهام للرقي بهؤلاء المغضوب عليهم، فبعد سبع سنوات على إطلاق كذبة المخطط الأخضر الذي يعنى بصغار الفلاحين وإيهامهم أنهم المقصودون والحلقة الأهم، بل تم إهدار أموال ضخمة من الضرائب والصناديق المتخمة من جيب المواطن المطحون إجتماعيا، لكنها لا تلامس الواقع من الأهداف المرجوة، فبعد أن اعتبرته الدولة دعامة لهؤلاء أضحى اليوم يلفظ آخر أنفاسه ليظهر أنه مخطط فاشل والحقيقي فيه هو الاسم والضجة الإعلامية والأموال التي تم تفويتها إلى أين..؟ الله أعلم! إن سادة التخطيط والتبليط والتحنيط لا تعلم أن هذا المخطط في طبيعته التضامنية لمواطن الجبل والتل والصحراء يلزمه ما هو لوجيستيكي وإمكان مادي و وتأطير وتوجيه، فأغلب تلك التعاونيات بالأرياف أُقفلت مع أول نسمة أزمة..
في انتظار ما ستمطر به السحابة الكاذبة من هذه المخططات، والتي أوقفها كبار الفلاحين (المرفهين) مالكي الشركات الضخمة ولما لا فهم من يحتكرون القرار السياسي وإطلاق مخططات للدعم لتعود لهم، في حلقة متصلة تجعلهم يبدعون الخطط كلما أحسوا أن مشاريعهم وشركاتها الضخمة في خطر، وفلاح المعول خارج المسرحية سلفا، لا سيما أن الوزارة الوصية آنذاك تعلم جيدا أن الكثير من المواطنين بالأرياف والصحراء لن تتمكن من الإنتاج أو حتى تسويق ما سيتم إنتاجه إن صادف وحدث ذلك، في غياب دراسات جدية ميدانية ومقاربة تشاركية للأراضي الصالحة وغير الصالحة، فلا وجود حتى لتجارب أو تدخل من طرف المكتب الوطني للإرشاد الفلاحي، الكل التزم الصمت وعفا عما سلف، كأن هذا المواطن شأنه شأن من يتغذى على العلف، لا يفهم ولا يعلم، هو فقط في نظر هذه الوجوه ذريعة لنهب الصناديق وإقحامه في متاهة تجعله عنوان ما تم تقسيمه من تحت الطاولات، هؤلاء المغلوبون من تلعب ربطات العنق و رؤوسها مسرحيات خلف سذاجتهم، هؤلاء من يحمي بالذريعة حماقة الكبار من جحيم الصغار، فالضمائر مستديرها هنا بوطني لا يدخلها ريح.
لأعيد طرح السؤال ، كيف يكون غير هذا؟ في ظل سياسة زمرة من اللوبيات بعقول تقول إيديولوجياتي ومصالحها أولا، هي سياسة لا تعترف بمن خارج الخارطة التخطيطية إلا في مواسم الاقتراع والصناديق الزجاجية، وإطلاق برامج وهمية لإتمام الفيلم الدرامي الديمقراطي، لكن لا شيء عجيب في عقوق المواطن لنفسه قبل حقوقه والمبالغة في مباركة الفساد وبالأخص ذلك المثقف الصامت الذي وصفه "بول نيزان" كلب الحراسة وعدو الوطن، فحينما غادر الشعب واقعه نحو الطمع العابر الزائل والخيال.. فقد رقص الساسة رقصة تلاميذ خرج أستاذهم من الصف، شيء مهين أن تحس نفسك في رقعة منسية.. مجرد عدد نسبي تؤثث الفعل الانتخابي. وهنا ربما يصدق قول الحقيقة الغائبة، نحن الفزاعات التي تؤثث الديمقراطية، نحن وجوه قاحلة بلا ملامح الوعي المشارك، وجوه لا تقوى حتى على كسر قفارة الوطن، تحيا فقط بالرقص على مسارح تهتز بأموال تُبذّر وتظل ذلك اليابس المقفر،
إن النقد يجب أن يأتي اليوم من داخل وخارج الشعب، وهو نقد مزدوج وربما عادل، كما تحدث عنه عالم الاجتماع المغربي "عبد الكبير الخطيبي" ، ففي الآونة الأخيرة حتى الشعب لم يساهم في كبح جماح الفساد.
يحكي صديقي محمد.ع الموظف النشيط بإحدى شركات الكهرباء، والذي يحتك دائما بمناطق نائية في المغرب، هو مغرب أصروا تسميته ذلك الـ"غير نافع"، في ذاك السابع من شتنبر من هذه السنة التي نودع يتحرك بسيارة العمل بقرى مجاورة لمنطقة "زمران الشرقية"، إلى أن أوقفه رجل ستيني واستدعاه لكأس شاي، فوافق محمد على احتساء كأس الشاي، هذا الذي يجتمع عليه شيوخ القبيلة وهم يتجاذبون أطراف الحديث عن الانتخابات، قال أحدهم "داها الحاج فلان ولد فلان" كلمة "داها" تعني في اللهجة المغربية (الدارجة).. أخذ أو حصل على نسبة أصوات ونجح، ثم يصيح شيخ آخر من هناك "راه تحالف فلان وفلان"، الصديق محمد في تلك الأثناء اكتفى في جلسته القرفصاء بالملاحظة والإنصات، ليطرح بعدها سؤال: لمن صوتم يا عمي؟ أجاب الرجل الطاعن في السن "لإبن فلان" رد محمد معقبا "لا لا إنني أسأل عن أي حزب؟" أجابه الشيخ "يا بني لقد كانت عزيمة عشاء وقالوا لنا ضعوا علامة على رمز الحمامة أثناء التصويت، وفعلنا ذلك". قال محمد مبتسما "صحتين العشا يا عمي".
لكن الشيخ بادر محمد بالسؤال بعد ذلك، وبلهجة محلية قال "واش مسيفطك المخزن؟" بمعنى هل أرسلتك السلطات المحلية؟.. يرد محمد في تحايل ساخر قائلا "نعم"، فقال له الشيخ "أرجوك أن تخبر السلطات أن يضعوا شبكة ربط بالكهرباء" أجابه محمد في أوج ضحكاته "يا عم الحاج.. خدمة الكهرباء استهلكتها وأكلت بدلها عشاءً "باللحم والبرقوق".. سلام عليكم.. وانصرف محمد يكمل طريقه.
من هذا الموقف استوقفني المعنى تأملا في عمق هذه الضمائر سواء عند الشعب أو عند ذوي القرار، ففي زمان ولَّى كما روى المفكر الكبير "المهدي المنجرة"، أن الصين شيدت أعظم سور يحمي البلاد من العدو، لكن العدو دائما يتمكن من التسلل لداخل أراضيها.. والسبب أن الحكام نسوا بناء الضمائر والعقول النيرة لا أسوار ، لأن حراس البوابات على الدوام يقبلون رشىً ويسمحون للغزاة بالدخول، فأحيانا الأجدر بنا قول، إن بعض العقول هي من تحتاج للتبليط.. ليست الطرقات التي بها حفر!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.