يخرج تنظيم داعش -وما يشاكله- في ظل دول ضعيفة مفككة تنخر فيها الطائفية والحزبية والفئوية نخرًا، في سياق لهيب المعارك، وصليل الصوارم، وفرقعة البنادق، ودويّ المدافع. وفي سياق الحروب والقتل نرى صنوف الذبح وفنون الحرق وضرب الرقاب وفقء العيون وبقر البطون وبتر الأطراف، في هيئات تشمئز منها النفوس السويّة، وتنفر منها الطبائع السليمة.
أُدين تنظيم داعش -وهو المزوّد بأيديولوجية دينية- من كثيرين، من السلفيين (متشدديهم ومعتدليهم) فضلاً عن غيرهم، وأطلقت الألقاب في وصف من يتشبه بداعش ويؤيده أو لا يرى بما يفعله بأسًا بأنه "داعشي" على سبيل الذم والتنقص.
إنهم يتهمون الناس بالردة ويقتلونهم على هذا الأساس دون بيّنة قاطعة إلا آراءهم وفهومهم، ويقتلون مخالفيهم من "المجاهدين" فضلاً عن سواهم كذلك بدم بارد، لأنهم عندهم "مرتدون" وفق معاييرهم. والسياق كما ذكرت سياق حرب ومعارك لا تخلو من فظائع بطبيعة الحال، ودعايات إعلامية بنية إرهاب الخصوم، والحرب النفسية، والترويع والاستقطاب.
لكن المفارقة التي تلفت الانتباه.. أن كثيرًا من هؤلاء "المنكرين" على داعش لا يرون بأسًا بقتل المخالفين المسلمين من "المبتدعة"، من "أهل التأويل في الصفات" و"القائلين بالقدر" و"خلق القرآن" و"خلق أفعال العباد" مثلاً، سواء حكموا بردتهم، أم لم يحكموا. ولا تزال أخبار "المبتدعة" المقتولين في التاريخ: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وحتى الحلاج والسهروردي.. تُروى في المساجد ودروس العلم -كل يوم- بلا أي نكير، بل بانتشاء ومديح وإقرار وتأييد وشكر، على أن قاتلي أولئك المساكين (رحمة الله عليهم) لم يكونوا سلفيين فقط، بل قُتل بعض هؤلاء بقضاء الأشاعرة لا الوهابية ولا السلفيين ولا داعش، وبعضهم قُتل ممزوجًا بإهانته وانتقاص لآدميته! دع عنك ما فعله "الجهمية" -وشارك في هذا من شارك من المعتزلة- بمختلف أصنافهم في حق أحمد بن حنبل وغيره من أهل الحديث، بالقتل تارة، والضرب والنفي والحبس تارة، وقطع الرزق تارة. المبدأ واحد، لكن السياقات والأعيان مختلفة، وكل هؤلاء ينهلون من بئر واحدة في التعامل مع مخالفيهم، وكل ذلك لم يخلُ من نزعة "داعشية".. وإن لم يكن هذا في ظل معارك وحروب.
ليس هذا فحسب، بل من العلمانيين الذين ابتهجوا بقتل المعارضين من الإسلاميين وغيرهم وحرقهم في أكثر من مناسبة، ثم هم ينكرون على داعش! مَن فيهم نزعة "داعشية"، فيا للتناقض!
بعبارة أخرى أقول.. إذا كان الذم يلحق داعش لارتكابه تلك الفظائع في سياق الحرب والمعركة، فما بال ارتكاب تلك الفظائع في سياق الأمن والاطمئنان في حق أفراد ليس لهم إلا الكلمة والكتاب والقلم وبيان الرأي وإعلانه؟ إنه لا شك شبيه بداعش! ودعوني أذهب أبعد من ذلك فأقول: إن كثيرًا ممن ينكرون على داعش هم في بواطنهم دواعش "وزيادة"، لا سيّما وهم يروون -بسعادة وبهجة وانتشاء- قتل المسلم "المبتدع" أو "المخالف" لهم في "فهم" الكتاب دلالة، و"السنة" ثبوتًا ودلالة، داعين لمن قتله مترحمين عليه مبتهجين بذلك. يقرأ أحدهم في كتابٍ تراثيّ من كتب الكلام والعقائد والفقه والتاريخ أخبار قتل المخالف المسلم بقطع يديه ورجليه ولسانه ثم صلبه على رؤوس الأشهاد لا لشيء إلا لأنه عند قاتله "مرتد" أو "مبتدع" أو "زنديق"، وربما يرويها في درس من دروسه، أو يكتبها في مقالة من مقالاته مؤيدًا ومناصرًا، ثم يكتب ينتقد داعش ويذمها ويذم إجرامها! ويا للتناقض مرة أخرى!
هذه مقالة افتتاحية تتلوها مقالات قادمة -إن فسح الله في العمر- أبيّن فيها لطائفة ممن ينكرون على داعش أنهم داعشيون مثلهم، يتّحدون معهم في النوع، لكنهم يختلفون -ربما- في الدرجة.
وما هدفي في هذه المقالات المتتالية "التشنيع" على أحد، ولا الخصومات المذهبية، ولا النزاعات الطائفية، إنما غايتي التي أسعى إليها.. مراجعة تراثنا الكلامي والفقهي من حيث هو آراء رجال واجتهاداتهم واستنباطاتهم، وآراء الرجال واجتهاداتهم ليست حججًا شرعية، وليست هي ملزمة لأحد من الأمة، وكثير منها خاضع لظروف زمانه وبيئته وسياقاته. ومن قلة العقل وجموده، ومن تزييف الوعي وتشويهه إسقاط تلك الاجتهادات كما هي على واقعنا دون النظر إلى ظروف زماننا ومشكلاته.
وحين نرى تلك الأمثلة المتداولة في التراث والتي لا تخلو من مناصرين ومؤيدين -حتى في زماننا- ثم ننبه إليها، ثم يقوم أتباع المذاهب بالتعسف في تأويلها، والاستماتة في الدفاع عن أصحابها فنحن بهذا -بالفعل- سنعاني في سبيل نقد تلك الجرائم التاريخية التي غلفت وأردت لبوس الدين، بل ادُّعي الإجماع على أنها حق! والله المستعان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.