خريف أوروبا.. ربيع الشعبوية

تاريخياً، لا يعدّ صعود اليمين المتطرف الأول من نوعه، إلا أنه كان في السابق خطاباً أقلوياً تحاصره ممانعة فكرية قوية، أما اليوم فالرياح تبدو مواتية لتأجج هذه الميول الشعبوية، إذ إن القيم الأنوارية التي صنعت مجد الغرب سابقاً تتصدع مفسحة الطريق أمام حمولة قَيـميّة جديدة؛ وإن اصطدمت مثلاً النازية والفاشية، وقبلها قضية دريفوس الضابط الفرنسي من أصول يهودية، بيسار قوي ومفكرين عظام، إضافة إلى تيارات فنية ثورية ومجددة حاصرت هذا التيارات الرجعية وقلّصت من حضورها، فإننا اليوم شاهدون على تعاصر بوادر انحطاط في مجالات عدّة، إذ لا يبدو أن البوب وثقافته أو التناسلات الفكرية لـ"ما بعد الحداثة" مما يعوّل عليه لصدّ هذا الموجة.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/23 الساعة 04:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/23 الساعة 04:50 بتوقيت غرينتش

يواصل دونالد ترامب، المرشح لاقتطاع تذكرة الجمهوريين في الرئاسيات القادمة والذي يتصدر استطلاعات الرأي في أميركا، نقل المدّ الشعبوي إلى العالم الجديد، بعد أن ضجّت به القارة العجوز. وباتخاذ الأسطورة "الترامبية" من المهاجرين والجار المكسيكي شيطاناً يحمل كل الأوزار والخطايا، فإنها تكشف عن بداية إفلاس سياسي، مُـجسداً أولاً بغياب البرنامج السياسي المتكامل واستبداله بأدبيات اليمين المتطرف، وثانياً بدخول المال جهرة إلى المعترك السياسي بعد أن كان يتخفى في أموال التبرعات واللوبيات الضاغطة، فترامب رجل أعمال تقدر ثروته بـ7 ملايين دولار لا يتوانى عن استخدامها كـ"أفضلية" سياسية مستحقة.

بالانتقال إلى المثال الأوضح في أوروبا، التي تشهد ما يشبه ربيعاً للشعبوية، وذلك إثر صعود أحزاب اليمين كقوة سياسية فاعلة، وتعاظم رهاب الأجانب المزمن Xenophobia الذي يستبطنه الرجل الأبيض منذ العصور القديمة، رهاب اجتهد في توصيف "البرابرة" Barbares حسب الظروف والمقاسات، من سحنة سمراء، إلى عرق ساميّ، وصولاً اليوم إلى لاجئين مدنيين قدموا من مناطق تعصف بها حروب أهلية.

وإن كانت أيديولوجيات اليمين المتطرف هذه حاضرة فيما سبق، فإنها اليوم تبدو أكثر صلابة وتجذراً في الأرض الأوروبية، وتترافق مع صعود مضطرد وفوز متتابع لأحزاب اليمين المتطرف داخل الخريطة الانتخابية، مصحوبة بأزمة اقتصادية عاصفة بعملة اليورو، أيقونة أوروبا المفهومية. إذ تشير استطلاعات رأي عديدة إلى احتمال وافر لتواجد مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا، في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، وأسفرت انتخابات سابقة في اليونان عن فوز حزب نازي، يضاف إلى ذلك سلوك بعض "الديمقراطيات" الأوروبية تجاه المهاجرين غير الشرعيين، من قبيل استقبال مؤمنين من ديانة دون أخرى، ناهيك عن السلوكيات العنصرية المتكررة في الملاعب الأوروبية تجاه اللاعبين الأفارقة.

تُظهر هذه الصور قتامة واقع أوروبي، ويبدو معها أن "انحلال الغرب" (تعمدتُ استعمال هذه الترجمة، رغم صدور ترجمة عربية بعنوان "تدهور الحضارة الغربية"، وذلك لأن الكلمة الألمانية Untergang تحتمل أيضاً معنى انحلال) بتعبير فيلسوف الحضارة أوزفالد شبنجلر هو واقع قيد التجسّد؛ وقد أحدث هذا الكتاب/النبوءة الصادر سنة 1920 ثورة في فلسفة الحضارة، إذ تمّ التخلص بفضله من المركزية الغربية التي انبنت عليها هذه الفلسفة في السابق، كما واستُبدل التصور الخطيّ Linéaire للتاريخ بالرؤية الدائرية التي تقسم السَيْر الحضاري إلى فصول أربعة، مُتيحة لنا القدرة على التنبؤ بشكل دقيق؛ وإذا عُدّ عصر الأنوار قمة حضارية فإنه على ضوء اجتهادات شبنجلر تبدو أوروبا اليوم باغترابها عن تاريخها وحضارتها تعيش فصلها البارد.

ويزداد بذلك الإجماع في الأوساط الفكرية حول نهاية الدورة الحضارية للغرب التقليدي وبأن أوروبا تعيش زمناً غسقياً، إذ أشار إلى هذه النهاية المفترضة الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي في مناسبات كثيرة مُعدداً من بين الأسباب صعود إسلام راديكالي مستعد للموت من أجل بضاعته القيمية حسب الفيلسوف دائما؛ على أنه لا يبدو إجماعاً مقتصراً على النخب فقط، بل حتى مغنية البوب مادونا ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، على ما يجسدانه من انحطاط فني وسياسي، عبّرا في مناسبات عديدة عن مخاوف مشابهة بمعجمين مختلفين.

تاريخياً، لا يعدّ صعود اليمين المتطرف الأول من نوعه، إلا أنه كان في السابق خطاباً أقلوياً تحاصره ممانعة فكرية قوية، أما اليوم فالرياح تبدو مواتية لتأجج هذه الميول الشعبوية، إذ إن القيم الأنوارية التي صنعت مجد الغرب سابقاً تتصدع مفسحة الطريق أمام حمولة قَيـميّة جديدة؛ وإن اصطدمت مثلاً النازية والفاشية، وقبلها قضية دريفوس الضابط الفرنسي من أصول يهودية، بيسار قوي ومفكرين عظام، إضافة إلى تيارات فنية ثورية ومجددة حاصرت هذا التيارات الرجعية وقلّصت من حضورها، فإننا اليوم شاهدون على تعاصر بوادر انحطاط في مجالات عدّة، إذ لا يبدو أن البوب وثقافته أو التناسلات الفكرية لـ"ما بعد الحداثة" مما يعوّل عليه لصدّ هذا الموجة.

أما سياسياً فقد شهد اليسار الأوروبي تحولاً منذ ثمانينات القرن المنصرم إلى الدين الليبرالي الجديد، وسادت قيم الليبرالية التي يصنعها السوق أساساً، وتسببت في أزمات اقتصادية كان لها الأثر الأكبر على المجتمعات الغربية، التي شرعت في مساءلة يقينيات الماضي متخذة طريقاً خطأَ.

وهكذا أضافت أزمة مهاجرين قشّة أخرى إلى ظهر البعير المهدد بالقصم، ووفرت الحطب الأيديولوجي اللازم لتضخم إضافي لليمين المتطرف، وبدا من خلال التردد والارتباك في التعامل مع هذه المحنة تبدد القرار والإجماع الأوروبييْن، وصار جلياً أن حسابات الأصوات والمقاعد الانتخابية قد دخلت فعلاً في اتخاذ القرارات، وصار كل قُطر أوروبي يحصي عدد يَـمِينـيّـه قبل أن "يجازف" باستضافة مهاجر، وذلك قبل أن تربك صورة الطفل السوري الغارق تلك الحسابات السياسوية، وتكشف عن زيف الوعي السياسي الأوروبي.

إن الحلول المتطرفة يميناً أو يساراً تغدو في الأزمات خياراً مُغرياً بالنسبة لمعاصريها، وسراباً يعد بالخلاص؛ وفيما يشبه انغلاقاً للدورة الحضارية التي تحمل في طورها الثالث، أي طور الأفول، حنيناً إلى الفناء وظلمة البدايات كما لاحظ شبنجلر نفسه، يبدو اليوم وكأن القارة العجوز تطوي صفحتها الحضارية، فيما تُظهر أمريكا شيئاً من ممانعة تحفظها لها براغماتيتها السياسية وصلابة مؤسساتها التعليمية والفكرية.

أما عن جنوب شرق أوروبا، فلنا أن نقول، مستعينين بشيء من التفاؤل واستئناساً بشبنجلر الذي صوّر الحضارات على هيئة كائنات عضوية، أن ما يحدث اليوم يشبه تقلب البِذار التي تحمل الحياة تحت الأتربة الثقيلة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد