في البدء كانت الحرية

أَثَرُ هذه اللحظة كبير في الأحداث التي تعيشها المنطقة منذ 2011 إلى اليوم، أو ما اصطُلح عليه بـ"الربيع العربي"، وللتذكير فقد كان معمر القذافي قارئاً جيداً للمستقبل عندما قرأ اللحظة سابقة الذكر بأنها رسالة لكل حاكم عربي، إلا أنّه لم يقم بإصلاحات حقيقية لكي يرمم العلاقة بينه وبين شعبه، ولكي يحصّن الجبهة الداخلية أكثر، بل راح يُرضي الغرب بدفع تعويضات لضحايا أخطائه، ويدمر أسلحته على مرأى العالم، وللأسف تأتي نهايته شبيهة إلى حد بعيد بالطريقة الدرامية التي قُبض بها على صدام، وذلك بعد أن ثار عليه شعبه في ثورة 17 فبراير.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/16 الساعة 05:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/16 الساعة 05:26 بتوقيت غرينتش

لقد تعرض الربيع العربي لحملات تشهير كثيرة، كان الغرض الوحيد منها، هو تنفير الجماهير منه وإفشال مشروعه القاضي بإقامة دولة المواطنة والحريات والعيش الكريم، وذلك بربطه بالمؤامرة الخارجية التي تستهدف كيانات الدول ووجودها، بغية تفكيكها وتجزئتها إلى كيانات جديدة، هذه الحجة التي صاغتها المخابرات العربية بمساعدة المخابرات الغربية من أجل صد نسمات الربيع التي أنعشت أيام العربي، وأرجعت له الثقة، وبينت بأنه ما زال حياً يقاوم عمليات التشويه والتخدير والعبث والإبادة، وكان الهدف النهائي من ذلك إرجاع العربي إلى بيت الطاعة، وإبقاء الدول العربية ساحة يرتع فيها الأجنبي كما يشاء.

فطنت الشعوب العربية في البداية لهذا المخطط الجهنمي الذي يرمي إلى هدم بنيان هذا الحلم، وإرجاعها، أي الشعوب، إلى بيت الطاعة، فدافعت عن خيارها، وصاحت بأعلى صوتها بأن الربيع لم يكن ولن يكون أميركياً ولا فرنسياً ولا بريطانياً، بل هو نبتة عربية نمت وترعرعت في هذه الأرض بفضل جيل آمن بنفسه وبقدراته، قدّر أن طريق الحرية طريقٌ طويلٌ وشاقٌ وسلوكه يحتاج إلى تضحيات جمّة وصبر كبير.. جيل آمن بنفسه وبقدراته، ولم يعبأ بحسابات الغرب، ولا تكتيكات الشرق، كان همّه الوحيد هو أن يتحرر من ربقة العبودية، ويلحق بالشعوب الحرة التي صنعت مستقبلها وبنت أمجادها، وبالموازاة مع ذلك، كان يعلم بأن الغرب لو سانده في الظاهر سيعمل كل ما بوسعه في الخفاء من أجل أن يوقف هذا المد التحرري أو يحرف مسار التغيير حتى يتماشى مع حساباته، ويخدم مصالحه، وكان يعلم أيضا أن هذه الأنظمة ما كان لها أن تبقى على قيد الحياة هذه المدة الزمنية، لولا وقوف الغرب بجانبها، ومدها بمقومات البقاء، وكان يعلم أخيراً وليس آخراً بأنه يعيش في بيئة يحكمها الاستبداد منذ سنوات طويلة، ورغم الخلافات بين حكام العرب إلا أنهم متفقون على توقيف أي تهديد من شأنه إعادة صياغة خريطة الحكم في المنطقة، تكون الشعوب مشاركة في صناعة القرار وصاحبة الرأي الأول، والكل يتذكر وقوف حكام الخليج بجانب بشار الأسد في بداية الحراك الشعبي، حيث لم يبخلوا عليه لا بالنصيحة ولا بالمال، بل استمر الدعم حتى الآن من طرف البعض رغم ما اقترفه من جرائم في حق شعبه وبلده، لذلك لم يحفل الثوار منذ البداية بما يقوله فلان أو يصرح به علان.

نتيجة لذلك، انعقد العزم، وانطلقت الصّيحات "الشعب يريد إسقاط النظام"، وأنشدت الحناجر بصوت واحد وشجي "إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر"، ولن تستجيب الشعوب إلى هذا القدر ما لم تتحرر من سجن الخوف الذي عمّر في قلبها، وسكن عقلها، وجعلها رهينة لمن يمارس السلطة عليها، ويتحكم في رقابها.

بداية التحرر من الخوف:
لقد كانت لحظة إلقاء القبض على صدام حسين من طرف القوات الأميركية بعد غزو العراق في 2003، ومن ثم إعدامه، لحظة فارقة في الوعي العربي الجمعي، ديكتاتور يمارس كل أنواع البطش والقمع والعنف ضد شعبه، يُقبض عليه بتلك الطريقة المهينة، وحتى يمعن الغرب في الإهانة أكثر، تنقل كل تلفزيونات العالم تلك اللحظة، وتعيد بثها أكثر من مرة، وذلك حتى يرى العربي من يحكمه، ويكتشف بنفسه مدى قوته التي يتباهى بها أمام شعبه في كل حين.

سقط إذن الديكتاتور الذي يُرهب ويُخيف، وسقطت معه كل الأساطير التي صاغها سدنته، وتبين أنه إله من ورق، ولولا خوف الشعوب وسكوتها على الظلم ما تجرأ واستمر في غيّه وظلمه إلى هذا الحد، حيث أدركت بنفسها النتيجة التي قررها لوثر كينغ عندما قال "إن المصيبة ليست في ظلم الأشرار، ولكن في صمت الأخيار".

أَثَرُ هذه اللحظة كبير في الأحداث التي تعيشها المنطقة منذ 2011 إلى اليوم، أو ما اصطُلح عليه
بـ"الربيع العربي"، وللتذكير فقد كان معمر القذافي قارئاً جيداً للمستقبل عندما قرأ اللحظة سابقة الذكر بأنها رسالة لكل حاكم عربي، إلا أنّه لم يقم بإصلاحات حقيقية لكي يرمم العلاقة بينه وبين شعبه، ولكي يحصّن الجبهة الداخلية أكثر، بل راح يُرضي الغرب بدفع تعويضات لضحايا أخطائه، ويدمر أسلحته على مرأى العالم، وللأسف تأتي نهايته شبيهة إلى حد بعيد بالطريقة الدرامية التي قُبض بها على صدام، وذلك بعد أن ثار عليه شعبه في ثورة 17 فبراير.

إلا أن البداية لم يكن القذافي ممثلها، بل كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بعدما أشعل محمد البوعزيزي جسده النّحيل فأشعل فتيل ثورة حررت التونسيين من نير حكم بوليسي استمر أكثر من عشرين سنة، فتيل الثورة لم يخمد في تونس الخضراء، بل امتد إلى مصر فسقط حسني مبارك ثم إلى اليمن وسوريا، وإن كان علي عبد الله صالح غادر الحكم، وهو الآن يقاوم من أجل إرجاع مجّده الضائع، فإن بشار الأسد أقسم على نفسه بأنه يبقى هو أو يحرق البلد، وقد حقق مراده، فدمر سوريا وشرّد شعبها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أعاد الوصاية الأجنبية على بلده، وهي الآن محتلة من طرف إيران وروسيا والكثير من الميليشيات الطائفية.

نعم، لقد كانت هناك العديد من العوامل التي ساعدت الإنسان العربي على أن يتحرر من الخوف، ومن ذلك، التطور المذهل لوسائل الاتصال، كالفيسبوك والتويتر واليوتيوب، فبفضل هذه الوسائل تواصلت الجماهير فيما بينها، واتفقت على الخطط الكفيلة لانتفاضة التغيير والتحرير، ضف إلى ذلك، قضايا الفساد وأخبار الصفقات التي طفت إلى السطح، والتي قامت بتسريبها بعض وسائل الإعلام، هذه التسريبات أزاحت الأقنعة وبينت الوجه الحقيقي لعائلات الحكم في الدول العربية.

ما نريد الوصول إليه بعد هذه المقدمة أن الشعوب العربية قد حطّمت جدار الخوف، وكسّرت حواجز الرّعب، وأن ما بعد الربيع العربي لن يكون شبيهاً بما قبله، وأن الذين يريدون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بالتحكم في خيارات الشعوب، وفرض خيار القلة الحاكمة بالقوة، ومنع الناس من التعبير عن آرائهم بكل حرية، فأنهم ببساطة يُسرِّعون نهايتهم الحتمية، وعلى الذين يشكون في هذا التحليل أن يقرأوا التاريخ ويتأملوا الواقع.

في البدء كانت الحرية:
الذين يحاولون إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وذلك بإعادة ترميم الصنم من جديد، بعدما سقط وتناثرت أشلاؤه، وبعدما ذاقت الشعوب العربية طعم الحرية في الاختيار والحوار وإبداء الآراء، الذين يحاولون ذلك ينسون ويتناسون أنه في البدء كانت الحرية، والحرية شيء يطلبه الإنسان ويتوق إليه، وكما هو معروف، فإن الإنسان يمقت القيود المفروضة التي تحد من حريته، وتكبح جماح خياله السابح، وما كان له أن يقبل بتلك القيود المشروعة، كالقوانين والتشريعات، لو لم تكن ذات فائدة تعود بالنفع العام على الفرد والمجتمع ككل، فهي تحدد مسؤوليات كل فرد وتنظم حياة الجماعة الإنسانية.

أما الإكراهات غير المشروعة، فالإنسان سوف يقاومها بكل ما أوتي من قوة، فمنع الإنسان من ممارسة حقه في التعبير، أو في اختيار من يمثله هو تعدٍّ صارخ على حق من حقوقه، وسلب لأهم ميزة يمتلكها، وإلا ما الفرق بين الإنسان والآلة أو بينه وبين الحيوان؟ للأسف لا يوجد فرق.
عند ذلك، تصبح الحرية بالنسبة إلى الإنسان مرادفة للحياة، فكل حر هو حي، وفي المقابل، كل عبد هو ميت، ومن يلوم الشعوب العربية على تخلفها وتأخرها، وهي تعيش حالة من العبودية، فإنه في الحقيقة يلوم شعوباً ميتة غير قادرة على إدراك ذاتها أو ما يدور حولها، وبالتالي.. فإن الحرية في التحليل الأخير هي المنتج لعالم المعرفة والعلوم والرقي والتطور، أما العبودية فلا تنتج إلا الغباء والجهل والتخلف والانحطاط والتفاهة.
ومن ثم، فإن الربيع قصة ستستمر فصولها وأحداثها، ولن تنتهي بمؤامرة هنا، أو بزرع يأس أو بإطلاق آلات الرعب والتخويف هناك، لأن الربيع صراع بين الحرية والعبودية، وبين الحياة والموت، ولن ينتهي هذا الصراع إلا بانتصار أحد الطرفين على الآخر، ولكن المؤكد أن النّصر سيكون حليف الحياة، كما يكون من نصيب الحرية، لأن الحياة هي الأصل في هذا الوجود، ولأنه في البدء كانت الحرية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد