في الوقت الذي يحتفل فيه العالم باليوم العالمي لحقوق الانسان، يحتفل قضاة المحكمة الدستورية العليا في مصر بالحكم الثاني الذي يصدر على التوالي من جانب المحكمة لإيقاف الاحكام القضائية الصادرة من محكمة النقض المصرية بإلزام رئيس المحكمة الدستورية العليا بالكشف عما يتقاضاه رئيس المحكمة والمستشارين من أموال ومستحقات مادية أو عينية والتي تخصصها الدولة لهم من ميزانيتها التي تقوم باستخلاصها من مقدرات ونفقات الشعب المصري.
حيث أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها الصادر في 27 نوفمبر2015 الماضي والمنشور في الجريدة الرسمية في العدد 48مكرر د بتاريخ 30 نوفمبر2015 المرسل بتاريخ 3 ديسمبر2015 الماضي حكمها في القضية رقم 42 ل سنه37 قضائية (منازعة تنفيذ) المقامة من 10 اعضاء بهيئة مفوضي المحكمة الدستورية العليا، لعدم الاعتداد بالحكمين الصادرين من محكمة النقض ودائرة طلبات رجال القضاء بمحكمة الاستئناف بإلزام عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا بالكشف عن رواتب قضاة واعضاء المحكمة.
وقضت المحكمة الدستورية في حكمها الذي اصدره المستشار عبد الوهاب عبد الرازق النائب الأول لرئيس المحكمة الدستورية العليا، بعدم الاعتداد بالحكمين الصادرين من "النقض" و"الاستئناف"، واعتبارهما عقبة فى تنفيذ الحكم الصادر سابقا من المحكمة الدستورية العليا برفض الكشف عن رواتب قضاة وأعضاء المحكمة الدستورية.
بالتأكيد كان لإصدار هذا الحكم بل العمل على تأكيده بحكم أخر من المحكمة الدستورية العليا ليس فقط دلالة قانونية وقضائية فحسب وإنما ذو دلالة معنوية بإيصال رسالة للراي العام والمتابعين للشأن القضائي المصري أنه لا يجب ان يطلع أحد على ما لدي المحكمة الدستورية من مخصصات وما تعطيه الدولة لمستشاريها من تموين.
لكن لماذا تصر المحكمة الدستورية العليا ويصر عدد من مستشاريها على مواجهه أي استفسار أو مطالبة بالكشف عن مخصصاتها المالية وما تتلقاه خزينة
المحكمة الدستورية العليا من أموال الموازنة العامة للدولة؟
الإجابة التي أصدرتها المحكمة الدستورية في حكمها انها اعتبرت إظهار المخصصات المالية والموازنة الخاصة بالمحكمة الدستورية العليا أمر يمس استقلال المحكمة حيث قضت المحكمة في حكمها "وتأكيدًا على الاستقلال المذكور نصت المادة (56) من قانون المحكمة الدستورية العليا على أن تباشر الجمعية العامة للمحكمة السلطات المخولة لوزير المالية في القوانين واللوائح بشأن تنفيذ موازنة المحكمة. ولا مشاحة في أن قرارات الجمعية العامة للمحكمة، والمحررات التي تُثبت فيها هذه القرارات، والتعرض لتلك البيانات والمستحقات على أي نحو كان، أمر تندرج المنازعة حوله – أيًّا كان مسماها أو تكييفها – تحت عباءة الخصومة القضائية في شأن من شئون أعضاء المحكمة الدستورية العليا وهيئة المفوضين لديها، والتي ينعقد الاختصاص بالفصل فيها لدائرة طلبات الأعضاء بهذه المحكمة دون سواها."
إذن فالدافع من أجل الإبقاء سرا على عدم الإفصاح عن التموين الذي تتلقاه المحكمة الدستورية العليا من قبل الدولة هو دافع وتأكيد على استقلاليتها المنصوص عليها في الدستور المصري الذي يعتبر من أخص خصوصيات الاستقلالية التي يجب ان تواجهها المحكمة الدستورية العليا.
لكن واقع هذه الإجابة الصادرة من حكم المحكمة السابق الإشارة اليه يطرح سؤالا ذو أهمية أكبر وهو ما دور المحكمة الدستورية العليا في الحفاظ على مبادئ الدستور المنتهكة في العشرات من القوانين والتشريعات التي تؤثر بشكل كامل علي حياة المواطنين المصريين؟، الإجابة لا شيء حتى الان.
بل ما تؤكده الواقع والتقارير أن المحكمة الدستورية العليا أصبحت إحدى متكئات النظام العسكري في مصر بعد مشاركتها ومباركة أعضاءها الانقلاب العسكري الذي تم في الثالث من يوليو 2013 والذي اقر تعيين أحد مستشاريها رئيسا للمحكمة الدستورية العليا ومن ثم تعيينه رئيسا للجمهورية مؤقتا دونما نظر أو اعتداد بأحكام دستور2012 الذي اقسم قضاتها على احترامه.
بل الأكثر من ذلك أن المحكمة الدستورية العليا لم تتحرك حتى الان ولم تبدي أي ملاحظة حول العشرات من القوانين والتشريعات المخالفة للدستور التي تم إقرارها وتشريعها من رئيس المحكمة الدستورية العليا القائم بمنصب رئيس الجمهورية عدلي منصور أو من قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي بعدما وصل الي سدة الحكم.
بالتأكيد لا يمكننا أن نطالب بعدم احترام نصوص الدستور المصري الذي احترمته المحكمة الدستورية في الحفاظ علي سرية "التموين "الذي تتلقاه من جانب الدولة لاحترام استقلاليتها، لكن لا يمكن ان يتم قبول هذا الامر على جثمان المواطن المصري الذي تنتهك كرامته وحريته وخصوصيته بسبب قوانين مخالفة للدستور لم تتحرك المحكمة الدستورية العليا من أجل إيقافها وإيقاف اثارها كما تحركت بشكل عاجل لإيقاف ما قالت عدوان علي استقلاليتها.
إن استقلال القضاء شأن يتجاوز بكثير حدود مستحقات القضاة والأموال التي يتحصلون عليها من قوت المواطن الفقير إذ أنه مرتبط بشكل وثيق الصلة بقضية العدالة وميزان الحرية في المجتمع.
وحينما يعرف المواطن العادي أن المحكمة الدستورية العليا تصدت بكل قوة وصرامة لأحكام قضائية تطالبها بالعمل على إظهار "التموين " الذي يتحصل عليه قضاتها في حين أنها تمتنع عن مواجهه العشرات من القوانين والتشريعات القامعة للحريات الاجتماعية والثقافية والسياسية للمواطن فإن ذلك يؤدي به الي عدم الثقة في المحكمة وقضاتها وفي المؤسسة القضائية كاملة.
كان يجب على المحكمة الدستورية العليا وهي تتطرق بكل حسم الي المطالبات بالكشف عن ميزانيتها ومستحقات قضائها أن تتخلق بالعدالة وليس بنصوص الدستور وحسب لان استقلال القضاء ليس فقط نصوصا ومواد وانما مبادئ أخلاقية في المقام الأول تدافع بها السلطة القضائية عن استقلالها وكرامتها.
في اخر تقرير دولي صادر عن مشروع العدالة العالمي للعام 2015 وهو التقرير الذي يقيم فيه دول العالم ومؤسساتها القضائية على مدي مقدرتهم في إنفاذ القانون ومدي تمتع هذه الدول بمعايير العدالة التي تؤهلها الي أن تكون "دولة قانون واستقلال للقضاء" تصدرت مصر ذيل الترتيب حيث حصلت على الترتيب رقم 86 من 102 والترتيب قبل الاخير في دول الشرق الاوسط بالنظر الي معايير كان أهمها غياب الفساد المالي والحفاظ على الشفافية والاستقلال وانفاذ القانون.
إن أكثر ما ينهي على عدالة أي نظام قضائي هو أن يتم اتهامه بتلاقي الرشاوي المالية في صورة مستحقات أو منح خصوصا وأنه خلال الفترة الماضية عرفت مصر فسادا كبيرا في سلطة القضاء، وظهرت العديد من قضايا الرشوة والتدخل في عمل القضاء، فمن يرضى على نفسه قبول الرشوة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتكلم ويدافع عن استقلاله، وبعبارة ملخصة لن يمكن أن تجد مرتشيا يحافظ ويدافع عن استقلاله في أي وظيفة من الوظائف.
و أخيرا فإن حكم المحكمة الدستورية العليا الأخير والخاص بعدم الكشف عن مستحقاتها أظهر لنا أيضا وللأسف الشديد ان النزاع القائم الان ما بين المحكمة الدستورية العليا وبين محكمة النقض ليس نزاعا من اجل حقوق المواطنين ولا حرياتهم، ليس نزاعا من أجل الكرامة المهدرة والتشريعات القمعية، وإنما نزاعا من أجل المستحقات المالية و"التموين "الذي يحصل عليه كلا منهما من دماء المواطن وكرامته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.