كل الأنظار اليوم متجهة إلى الرياض حيث يعقد ما سمي باجتماع المعارضات السورية للتوافق على تشكيل وفد مشترك للتفاوض مع نظام بشار الأسد، وبغض النظر عن كون هذا الاجتماع يعقد تحت وقع وهمجية القصف الروسي المجنون لكل المناطق السورية التي تحررت من سيطرة بشار الأسد، وبغض النظر عن مدى تمثيل هذه المعارضات المجتمعة للسوريين ولثورتهم وتطلعاتهم ونضالهم خلال خمس سنوات للتخلص من الاستبداد، وكل الأثمان الغالية التي دفعوها قبل الثورة وخلالها في طريقهم إلى الحرية، وبغض النظر عن السقف المنخفض التي تجتمع تحته هذه المعارضات والذي يقبل بوجود بشار الأسد بعد كل القتل والتدمير الذي قام به خلال خمس سنوات، وبغض النظر عن تغيّر مفهوم وماهية العدو بالنسبة لكثير من الشخصيات اليسارية والأقلوية المحسوبة على المعارضة، والعديد من الدول، وتحوله من بشار الأسد وجيشه وحلفائه إلى تنظيم الدولة وكل التنظيمات الإسلامية الأخرى التي تواجهه، وبغض النظر عن كون هذه المعارضات المجتمعة اليوم لم تتفق على رأي أو قرار خلال كل زمن الثورة، وكانت طوال الخمس سنوات الماضية ممثلة لأصوات مشغليها ومعتمديها من الدول والسفارات وأجهزة المخابرات، وممثلة لمصالحها الشخصية ومصالح حساباتها البنكية أكثر مما مثلت الثورة أو تطلعات السوريين إلى الحرية، وهي أشياء وازنة عادةً ما تؤخذ في الحسبان وتؤثر في مجريات الأحداث ولا يُغض النظر عنها، فإن هناك أمراً ينساه أو يتناساه المجتمعون في الرياض اليوم، ومعهم كل الدول الراعية لاجتماعاتهم، وأيديها على قلوبها وهي تنتظر الخروج بنتائج ايجابية للمؤتمر، وهو أن بشار الأسد الذي لم يقبل أن يجري أي إصلاح حقيقي، أو يحاول فهم آلاّم السوريين خلال الثورة وما قبلها، ولم يقدّم أي تنازل مهما كان صغيراً، بما في ذلك معاقبة ابن خالته عاطف نجيب الذي اقتلع أظافر أطفال درعا وكان سبباً مباشراً في قيام الثورة السورية، وفضّل قتل ما يقارب من مليون سوري، وتهجير عدة ملايين، وتدمير سورية وإعادتها على الأقل مائة سنة إلى الوراء، وتحويلها إلى بلد محتل من الايرانيين والروس، على التنازل ولو قليلاً للسوريين، لن يجبره أحد اليوم في العالم، على تقديم أصغر تنازل لمن يصفهم بالعملاء والخونة، ويعرف أنهم ألعوبة بيد دول وأجهزة مخابرات، خاصة وهو يشعر اليوم بالقوة والانتصار مع التدخل الهمجي الروسي للوقوف معه والدفاع عنه، ومع قدرته على إقناع العالم بأنه العدو الأقل خطراً، إن لم يكن الحليف الوفي في مواجهة تنظيم الدولة وباقي التنظيمات الإسلامية، وساعده في ذلك أصدقاءه الأوفياء من الأقليات واليسار من حلفائه وخصومه على حد سواء.
منذ بداية الثورة التي حولها رصاص قوات بشار الأسد وقذائف دباباته وصواريخه من ثورة تظاهرات سلمية وأغاني ولافتات إلى ثورة مسلحة، ظهرت تيارات تطالب بحلول سياسية مع النظام، ومع أن بشار الأسد خلال زمن الثورة كان في كل اليوم يطلق النار على أي فكرة أو مشروع ينتقص من سلطته المطلقة التي كان يتمتع بها على كل الأراضي السورية 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع قبل مارس 2011، إلاّ أن هناك من بقى يتحدث وحتى اليوم عن حلول سياسية مع نظام كل تجارب حواره مع شعبه كانت كذباً وتدليساً، ولم يقدّم طوال حكمه وخلال كل الأزمات التي تعرض لها، أو المواقف التي احتاج فيها للسوريين تنازلاً حقيقياً واحداً لصالحهم، ودائماً كان يسحب سراً باليسار ما كان يمنحه علانية باليمين، ويفرغ كل إصلاح أو تطوير أو تحديث من محتواه، فالجبهة الوطنية التقدمية التي أنشأها حافظ الأسد باعتبارها ائتلاف أحزاب تشاركه الحكم، استطاع أن يحولها إلى متحف شمع لتماثيل شاحبة لا تهش ولا تنش، ولا تقدر على طرد ولو ذبابة إن حطت على وجهها، ومجلس الشعب حوله إلى مسرح عرائس تحركه المخابرات وتقدم كراسيه رشىً وهبات لمرتزقته ومحاسيبه، وفسحة الحرية الوحيدة التي ظنها السوريون أو بعضهم بارقة أمل عند اجتماع الكتاب والصحفيين السوريين مع أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية عام 1979 وقالوا فيها ما قالوه، ومن بعدها بيان النقابات الشهير إبان صراع جماعة الإخوان المسلمين مع النظام، انتهيا بمجزرة ليس لجماعة الإخوان المسلمين أو للأحزاب اليسارية فقط بل للسوريين، سواء على المستوى المادي في مجزرة حماه 1982، أو مجزرة الحريات وتحويل سورية بعدها إلى مملكة للخوف والصمت.
بشار الأسد فعل الأمر نفسه عندما تولى الحكم بالوراثة خلفاً لأبيه واحتاج لمشروعية ما فكانت الفترة التي اصطلح على تسميتها بربيع دمشق، وعندما وطد الأسد الصغير سلطته انقلب على فكرة الحريات الكاذبة، فأغلق المنتديات التي فتحت بغض نظر من أجهزته الأمنية التي أعاد تفعيلها، وعاد الاعتقال السياسي والاستدعاء الأمنية والمحاسبة على الهمسة، وسيفعل نفس الأمر فيما لو لا قدّر الله ونجح بخداع تلك التشكيلات التي يجري إعدادها اليوم (وهي بالمناسبة تضم جزءاً كبيراً من محاسيبه وجواسيسه وفلوله)، وجلسوا معه ليتفقوا على فترة انتقالية يبقى فيها رئيساً لثمانية عشر شهراً، وهي كافية بالنسبة إليه لإعادة سورية إلى ما قبل مارس 2011، وإعادة بسط نفوذه وسلطته كاملين عليها.
لا السعودية ولا قطر ولا تركيا ولا أي دولة في العالم تعرف هذا النظام أكثر مما يعرفه السوريون، وأي حل سياسي معه سينتهي لصالحه، وسيقدّم خلاله مجموعة مناصب على شكل رشى لشخصيات ستقبلها كما قبلت مثيلاتها من غيره ويعود السوريون إلى العبودية من جديد، وعندها ستشهد سورية مجازر وانتقامات من الناس الذين قاموا بالثورة أو حضنوها أو تعاطفوا معها، ستكون مجازر حماه 1982 ومجازر السنوات الخمس الماضية بمثابة النزهة إذا ما قورنت بها، ولذلك فالحديث عن حل سياسي يوقف سفك الدم السوري هو أمر مضحك وساذج، لأن ما سيسفكه نظام بشار الأسد من دم السوريين في حال تمكن من إعادة قبضته على سورية، سيكون أكثر بكثير مما يحدث اليوم، والاختلاف الوحيد بين تلك المرحلتين هو انتقال القتل والتدمير من الحالة العلنية أمام كل كاميرات الدنيا إلى الاعتقال والتصفية سراً في باحات السجون وداخل الزنازين.
أعود للمعارضات السورية المجتمعة في الرياض اليوم لأقول: أحياناً يكون النجاح بصيغة الفشل!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.