هو السؤال الأبرز الذي أرّق الكثيرين ولم يزل، لكنه ورغم أهميته فإن معظم الناس قد باتوا في حيرة من أمرهم، وعاجزين عن إيجاد تفسير منطقي له، فمع تسارع الأحداث في منطقتنا، استطاعت هذه التنظيمات، وبفترة قياسية، إيجاد موطئ قدم لها في عدة دول، ومن ثم انطلقت؛ لتوسع رقعة سيطرتها، مكتسحة كل ما يقف في طريقها من قوات نظامية أو ميليشياوية، فما السر؟
لقد كان لسيطرة إيران المطلقة على العراق، بعد الاحتلال الأمريكي، أبلغ الأثر في الحال التي وصلنا إليها، حيث تم حل مؤسساته المدنية والعسكرية والأمنية، ومن ثم بناؤها على أسس طائفية ميليشياوية ثبتت المالكي على رأس حكومة مستبدة، قامت لاحقا بقمع اعتصامات العراقيين السنة السلمية، والتي توسعت حتى كادت تصبح ثورة وطنية عراقية شاملة تطيح بمشروع إيران الصفوي في العراق والمنطقة، وهو ما دفعها للإيعاز بإخماد هذا الحراك السلمي وبالقوة.
إن إخماد المالكي للاحتجاجات العراقية السلمية بقوة السلاح كان الشرارة المولدة لسلسلة الأحداث والأزمات اللاحقة.
أُجبِرَ العراقيون السنة على حمل السلاح في وجه المالكي وميليشياته؛ دفاعا عن أنفسهم، ولاحقاً أجبروا أيضاً على التحالف مع قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، لتتوالى بعدها سلسلة الأحداث، فما هي العوامل والمؤثرات الحقيقية التي أدت لتمدد هذا التنظيم ليعلن عن دولة العراق والشام، ولاحقا دولة خلافة إسلامية شعارها: باقية وتتمدد؟
ظلم الأنظمة العربية واستبدادها
الظلم وقمع الحريات بكافة أشكالها، إضافة إلى البطالة، وعدم اهتمام الأنظمة القائمة بتطوير البنى التحتية للدول العربية؛ بسبب الفساد والمحسوبية، اللذين أنتجهما استبداد أنظمة كان همها الأول والأخير الحفاظ على الحكم بأية طريقة أو وسيلة، وسرقة أقوات الشعوب وتخزينها في بنوك سويسرا والغرب، وهو ما أدى إلى نقمة الشعوب على أنظمة الحكم القائمة، وخلق نوعا من التنافر بينهما.
منع الشعوب العربية من التغيير السلمي للأنظمة
لقد حاولت الشعوب العربية التي ثارت على ظلم حكامها أن تتنسم عبير الحرية للمرة الأولى في تاريخها، لكنها لم تستطع؛ حيث تم وأد هذه التجارب في مهدها من خلال الانقلاب على الحكومات التي أفرزتها الثورات، بعد أن تكاتف ضدها الخارج مع بقايا الدول العميقة، وفلول أنظمتها البائدة في بلدان الربيع العربي، وهو ما سبب حالة إحباط لدى هذه الشعوب، جعلتها تكفر بكل شعارات الحرية والديمقراطية الفارغة التي يتشدق بها الغرب، الذي أظهر وجهه الحقيقي من خلال عدم سماحه لشعوبنا بتغيير أنظمتها بشكل سلمي حضاري، وبالتالي فإن شرائح واسعة من مجتمعاتنا باتت تنظر إلى المشروع الإسلامي كبديل وحيد قادر على إنجاز نهضة الأمة.
إجرام نظام الأسد بحق سورية وشعبها
الإجرام المنقطع النظير الذي مارسه نظام الأسد في سورية على مدى أكثر من أربعة أعوام، فأهلك الحرث والنسل، وشرد السوريين في مشارق الأرض ومغاربها، في ظل تآمر عالمي وتخاذل عربي واضح جلي، منع السوريين من إسقاط نظام مجرم مستبد، فتم حصار الجيش الحر ومنعه من الحصول على الدعم والسلاح النوعي الذي يكفل استمرار ما كان يحققه من انتصارات على آلة الإجرام، وهو ما فتح الباب أمام الفصائل الإسلامية، ذات التوجه الجهادي؛ كي تنطلق بقوة مستفيدة من الحاضنة الشعبية التي ضاقت ذرعا بما يرتكب بحقها من جرائم، وتجاوزات وباتت جاهزة للتعاطي مع الفكر الجهادي، الذي اعتبرته بارقة الأمل الوحيدة؛ للتخلص من النظام المجرم، بعد أن يئست من الجميع.
مشروع الدولة الصفوية الجديدة وتمددها
التمدد الإيراني الذي حمل مشروع دولة صفوية جديدة تباهت باحتلالها لأربع عواصم عربية، وإعادة رسم حدود هذه الدولة، لتصل شواطئ البحر الأبيض المتوسط غربا وخليج عدن جنوبا، في ظل عجز عربي حكومي غير قادر على مواكبة الأحداث والتصدي لهذا المشروع، الذي يهدد بابتلاع أوطاننا، الواحد تلو الآخر، وعلى يد أقليات أحسنت إيران استقطابها واستغلالها وتوظيفها كأدوات لمخططها التوسعي في المنطقة، فشكلت لها أحزابا وأذرعا عسكرية، كحزب الله في لبنان، والمهدي وبدر وعصائب الحق وأبي الفضل العباس، ولاحقا وحدتهم في حشد شعبي شيعي دموي قائم على أسس طائفية بحتة في العراق، والفاطميين في أفغانستان، والحوثيين في اليمن، أما في سورية فقد شكلت العديد من الميليشيات المسلحة للشيعة والمسيحيين والدروز والعلويين، وهو ما خلق حالة من التذمر والغضب الشديد لدى الشعوب العربية قاطبة، كيف لا، وشعوبنا مكبلة، لا حول لها ولا قوة، تكتفي بمراقبة إيران، وهي تحتل دولنا من خلال أقلية شيعية باتت تحكم قبضتها على عدة دول عربية ذات أغلبية سنية.
حالة الاستقطاب الحاد والشرذمة في سورية
هي السياسة التي مارسها الجميع بحق السوريين، بدلاً من لمّ شملهم وتوحيد قواهم في مواجهة نظام الأسد، وهو ما أدى إلى شرذمة قوى الثورة والمعارضة سياسيا وعسكريا واجتماعيا وفكريا، حتى وصل الأمر حد الصراع والاقتتال على الدعم المالي والنفوذ في مناطق السيطرة، وبالتالي تصفية الفصائل المسلحة لبعضها البعض، وقد كان لاستئثار الفصائل المسلحة، كل بمنطقته، والتعامل معها كإقطاعية، وملكية فردية، إضافة إلى التجاوزات الكثيرة بحق المواطن البسيط، بالغ الأثر في تهيئة الحاضنة الشعبية لاستقبال الفصائل الجهادية الإسلامية.
مشروع الاستنزاف وتصفية الحسابات في منطقتنا
مخطط الاستنزاف اللاأخلاقي الذي تبنته الدول الكبرى في العراق وسورية تحديداً، حيث سمحت لإيران بدعم تابعها في دمشق، وإدخال مستشاريها وميليشياتها إلى سورية وكذلك غضت الطرف عن دخول ونمو الفصائل الجهادية السنية، وسمحت للجميع بالاقتتال وتصفية حساباتهم على الأرض السورية؛ خدمة لأمن إسرائيل، لقد كانت المعادلة تقضي بأن يتقاتل الجميع، وإلى ما لا نهاية، ولكن بشرط، ألا يكون هناك منتصر أو مهزوم.
توفر المال والسلاح للتنظيمات الجهادية
المال والسلاح اللذان باتا في حوزة الفصائل الإسلامية الجهادية على اختلاف توجهاتها، كانا كافيين كي يمدانها بأسباب القوة، واستقطاب العديد من الفصائل الجهادية في المنطقة والعالم، إضافة إلى شرائح واسعة ومختلفة من المجتمع الإسلامي السني المحبط والناقم على الحالة البائسة التي وصل اليها العرب والمسلمون، ليس في وطننا العربي وحسب، بل في العالم، وهو ما سمح للتنظيمات الجهادية باستقدام وإعالة آلاف الراغبين في الجهاد على أرض الشام والعراق، ولاحقا ليبيا والصومال وصولا إلى نيجيريا، ونجحت إلى حد كبير في إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها.
لقد حذرت قبل أكثر من عامين بأن عدم سقوط نظام الأسد سيجعلنا نترحم على تشدد القاعدة؛ التي ستبدو في قمة الاعتدال أمام ما سنواجهه من تشدد وتطرف الجميع بلا استثناء، فالشعوب لا تطلب سوى حقها في الحياة والعيش الكريم وحرية ممارسة معتقداتها.
معالجة الأسباب لا التعامل مع النتائج
القضاء على التطرف والإرهاب لا يكون إلا بمعالجة أسبابه والقضاء عليها، وهنا لا أجامل إذا ما قلت: إن دولة قطر تكاد تكون الوحيدة التي ما فتأت تدق ناقوس الخطر، وتنادي بمعالجة الأسباب الحقيقية للتطرف والتشدد، وليس الاكتفاء بالتعامل مع النتائج التي أفرزها إجرام أنظمة مستبدة دُعِمَت أو سُكِتَ عنها، فالحلول العسكرية وكبت الحريات والتضييق على الشعوب، ليست هي الوسائل الناجعة، بل ربما يكون قد فات أوانها في ظل تطور الأحداث التي خرجت عن السيطرة تماما.
لم يفت الوقت بعد لإنقاذ ما تبقى من استقرار، لكن علينا أن نعلم أنه لا مجال لحلول ترقيعية أو عمليات تجميلية، فالحال التي وصل إليها وطننا العربي تحتاج إلى حلول جذرية تتمثل في جملة عوامل منها: إنهاء الاحتلالين الروسي والإيراني لسورية، والتصدي لإيران بحزم، وكف يدها عن العبث في أمن واستقرار دول المنطقة.
الكف عن فرض الإرادات الخارجية على دول الربيع العربي بل مساعدتها على اختيار نوع وشكل الحكم الذي تريده، حل الميليشيات الطائفية الشيعية المشكلة إيرانيا في العراق وسورية ولبنان واليمن وغيرها من الدول.
إسقاط نظام الأسد المجرم، والسماح للسوريين بتقرير مصيرهم بعيداً عن الإملاءات الخارجية.
السماح للعراقيين والليبيين بإنتاج حكومات وطنية حقيقية.
ضرورة إسقاط نظام الانقلاب في مصر وعودة الشرعية.
تركيز الحكومات على التنمية ومكافحة البطالة.
بدون هذا فإننا ماضون إلى مزيد من التشرذم والفوضى التي، وعلى ما يبدو، لن تنتهي قريبا، ولن يسلم منها أحد، حتى أولئك الذين يظنون أن هذه الفوضى تصب في صالحهم، وعلينا أن نتعامل مع الأمور بكل وضوح وشفافية، وأن نضع أيدينا على الجرح؛ كي لا نكون كمن يدفن رأسه في الرمال خشية أن يراه أحد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.