بلير والإجابة الصادمة

ولا أنكر هنا حقيقة أن صدام كان حاكمًا ظالمًا ديكتاتوريًا مستبدًا، ولا أحاول الدفاع عنه، ولكنني أحاول أن أرى صورة نحو مليون شهيد وملايين الجرحى واللاجئين والأرامل والأيتام والأمهات الثكالى والآباء المفطورة قلوبهم، كانوا جميعًا ضحايا حرب بلا أي أساس على بلدهم، لم يستغرق الاعتذار عنها سوى ثوان معدودة في لقاء تلفزيوني من مهندسها الأول

عربي بوست
تم النشر: 2015/11/18 الساعة 07:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/11/18 الساعة 07:34 بتوقيت غرينتش

غنى كاظم الساهر ذات يوم من كلمات الشاعر الكبير فاروق جويدة قائلًا: "أطفال بغداد الحزينة يسألون عن أي ذنب يقتلون؟"، وظل هذا السؤال بلا إجابة لسنوات، حتى خُيّل إلى البعض أنه لن يسمع إجابة عن تساؤله.

ولكننا لم ندرك حينها أن غياب الإجابة سيكون أهون من وجودها، وأن وجود الإجابة ربما يفتح علينا -جميعًا- أبوابًا للجحيم لسنا بقادرين على غلقها، تارة يأتي تفسير الإجابة في صورة تساؤلات تحتاج بدورها لإجابة، وأخرى في صورة دموع على بلد -في الأغلب- لن يعود كما كان، وثالثة في صورة ندم على أمة تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها!.

جاءت الإجابة منذ أيام في لقاء لتوني بلير مع الإعلامي فريد زكريا في قناة CNN، كانت إجابة بلير في ظاهرها اعتذار من المسؤول البريطاني الأول عن تدخل بلاده في حرب العراق، وفي باطنها محاولة منه ليلقي باللوم على "تقارير استخباراتية" لم يسمها أو يوضحها، ولكنه اتهمها صراحة بأنها السبب الرئيسي وراء تدخلهم في العراق.

وعلى ما يبدو فإن تلك الإجابة كان هدفها الأول هو محاولة بلير قطع الطريق أمام تقارير حكومية ستصدر قريبًا بخصوص دور بريطانيا في حرب العراق، بالإضافة إلى تحسين صورته أمام كتب التاريخ بعد أن تيقن الرجل بصورة أو بأخرى أنه لن يقف يومًا أمام محكمة عدل دولية تحاكمه على جرائمه بحق الشعب العراقي، خصوصًا أن شريكه في جريمته رئيس أقوى دولة في العالم، والأكثر ديمقراطية -كما يقولون- جورج بوش.

ولكن بلير راجع نفسه سريعًا، أو بصورة أدق لم يرغب في أن يضع وكالة الاستخبارات البريطانية موضع اتهام خصوصًا وأنها الوكالة التي لا تخطئ وفق نظر البعض، ولا يجب تشويه تلك الصورة عنها، فقلل بلير من أهمية هذا الخطأ، واعتبر أن كل الحلول -بهذا الخطأ أو من دونه- كانت ستقودنا إلى نفس النهاية، فالتدخل المباشر في العراق أو عن طريق وسطاء في ليبيا أو بالمطالبة بعزل النظام في سوريا، كلها انتهت بنتيجة واحدة وهي انهيار الدولة، ولكن بلير نسي أن يقول إن هناك حلًا رابعًا، وهو أن تترك أمريكا وحلفاؤها في الغرب، العالم يقرر حياته كما يريد، ربما لا يقودنا هذا الحل لنفس المصير.

وفي خضم محاولات بلير لتبرير إجابته، أضاف أن بقاء صدام كان مستحيلًا، والوضع الآن بدونه أفضل بكثير، ولا أدري على أي أساس بنى قراره، هل بناءً على استطلاعات لرأي الشعب العراقي؟ أم عن طريق لقاء ممثلين عن طوائف الشعب؟ أم كان قراره فرديًا بناءً على شعور دائم لدى المسؤولين الغربيين بأنهم "شرطة العالم الثالث".

ولا أنكر هنا حقيقة أن صدام كان حاكمًا ظالمًا ديكتاتوريًا مستبدًا، ولا أحاول الدفاع عنه، ولكنني أحاول أن أرى صورة نحو مليون شهيد وملايين الجرحى واللاجئين والأرامل والأيتام والأمهات الثكالى والآباء المفطورة قلوبهم، كانوا جميعًا ضحايا حرب بلا أي أساس على بلدهم، لم يستغرق الاعتذار عنها سوى ثوان معدودة في لقاء تلفزيوني من مهندسها الأول، وربما لن تروى حكايتهم سوى في صورة أرقام تحتل سطرا أو اثنين -على الأكثر- في كتب التاريخ.

وربما يرى البعض أن للرجل بعض العذر، فقد كانت بين يديه تقارير استخباراتية لم يكن يدري حينها بأنها غير دقيقة، بالإضافة إلى أنهم أرسلوا بعثات دبلوماسية ومتخصصة في هذا المجال، ورغم أنهم لم يجدوا مفاعلات أو أنشطة نووية ولكنهم طلبوا المزيد من الوقت، ولكن لم يكن أحد حينها يملك الوقت.

وللرد على تلك النقطة سأعود لنقطتين: الأولى كشفتها وثائق لوزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول، تم نشرها منتصف أكتوبر الماضي في صحيفة "ديلي ميل" البريطانية، كشف خلالها باول ما عرف باسم "الاتفاق الدموي"، وهو اتفاق عقد بين بوش وبلير قبل عام من غزو العراق، تعهد فيه الأخير بمساعدة أمريكا في حربها ضد العراق، وبأنه سيعمل على إقناع الرأي العام الدولي ودول الجوار بخطورة نظام صدام، ما يضمن وقوفهم بجوار مشروعهم القادم في العراق.

والنقطة الثانية تاريخية أيضًا، ولكن هذه المرة في القاهرة، وتحديدًا بعد قرار مصر تأميم شركة قناة السويس وقبل فترة قصيرة من العدوان الثلاثي على مصر، وما أود أن أشير إليه تحديدًا في تلك الفترة الصعبة تاريخيًا، ما يعرف باسم "مراسلات ايدن-ايزنهاور السرية"، التي أشار فيها ايدن -رئيس وزراء بريطانيا، إلى اتفاق تم بينه وبين جي موليه -رئيس وزراء فرنسا، بضرورة التدخل العسكري في مصر للقضاء على نظام عبدالناصر، رفض ايزنهاور -الرئيس الأمريكي الأسبق، هذا الاقتراح قائلًا "إنني مقتنع أن أي دولة غربية يجب أن تظهر للعالم أن كل الوسائل السلمية لحل هذه المشكلة قد استخدمت، وآمل أن التصرف المتسرع يمكن تجنبه".

وهنا يظهر أن ايزنهاور لم يعارض التدخل العسكري ولكنه أراد أن يتم في صورة مثالية ليضمن المكاسب المرجوة لجميع المشاركين في الحرب، وهذا ما تم بعد ذلك فيما عرف بمؤتمر لندن الذي دعا إليه ايزنهاور في لندن، ولم يكن هذا المؤتمر يهدف لحل الأزمة كما لم تكن لقاءات المسؤولين الدبلوماسيين في العراق تهدف لهذا أيضًا، إنما كان الهدف الأول هو إضافة بعض "الكرز" على تورتة الخطة الاستعمارية الجديدة، كي يقتنع العالم بأن "كل الوسائل السلمية قد استخدمت"، عمومًا لسنا في مجال التوسع في ذكر فعاليات هذا المؤتمر أو تلك المؤامرة القديمة على مصر المتجسدة في صورة جديدة على العراق.

ولأن الحياة ستلهو بنا وتسخر كما تقول كوكب الشرق، فإن المصادفة الغريبة في حديث بلير أنه كان على قناة CNN، وهي نفس القناة التي نقلت الحرب بصورة مباشرة للعالم أجمع، وخصصت كل وقتها خلال تلك الفترة للحديث عن مدى خطورة نظام صدام والبرنامج النووي المتطور الذي يملكه، ليأتي بلير بعد 12 عامًا على تلك الواقعة ليكذب القناة على شاشتها، ربما ليمنحنا الفرصة كي نتوجس مما تعلنه نفس القناة وغيرها عن دول أخرى بالمنطقة وهدفها من ما تنشره لنتعلم من درس العراق، وربما لننتظر كي يسخر منا القدر مرة أخرى ولكن سيكون ذلك بعد فوات الأوان بأوان!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد