لقد بات من شبه المسلمات لدى السوريين وعلى اختلاف أطيافهم أن الحل في سورية لا بد أن يكون خارجيًّا وبالتوافق بين القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في الشأن السوري، فتعقيدات الأزمة السورية باتت أشبه ما تكون بمتاهة الداخل إليها مفقود، ولا خارج منها.
الحقيقة الثابتة فيما يخص الصراع في سورية هي أن القوى الكبرى لم تكن مستعدة للتخلي عن نظام الأسد، سيما وأنها لم تستطع إيجاد البديل القادر على الإمساك بزمام الأمور، مع إدراكها يقينًا أن مسألة احتواء الثورة السورية باتت أمرًا شبه ميؤوس منه، وعليه فقد دفعت باتجاه إدخالنا في دوامة صراع لا ينتهي بغالب أو مغلوب، بل صراع تستطيع من خلاله استنزاف الجميع وإنهاكهم وصولًا إلى فرض حل يخدم أهدافهم ويلبي حاجاتهم في الحفاظ على أمن الكيان الصهيوني وتكريس تبعيتنا للخارج.
مسألة إسقاط الأسد لم تكن بالأمر المستحيل، إذ كان يكفي القوى الكبرى أن توعز له فيتنحى أو أن تدبر مسألة انقلاب أبيض أو أحمر أو حتى أسود، تستطيع من خلاله إزاحة رأس هرم السلطة مع بعض القيادات عن المشهد السياسي لتفسح المجال للدولة العميقة كي تتولى الحكم، لكنها ولحساسية الموقع الذي تتمتع به سورية رغبت في إعطاء النظام فرصة إجهاض الثورة والقضاء عليها؛ فزج نظام الأسد ومن خلفه إيران وأشياعها بكل ما لديهم من قوة ووسائل قمع وقتل وتدمير لم تستطع ثني السوريين عن مطلبهم بإسقاط منظومة الحكم الفاشي.
لقد كانوا بحاجة إلى شماعة يبررون بها تخاذلهم وسماحهم للأسد بالقتل والتدمير؛ فسمحوا للجماعات الجهادية بالتشكل وحرية الحركة وتفادوا استهدافها في بداية الأمر ومنحوها حرية التمدد، كل هذا كي يصلوا إلى مرحلة شيطنة الثورة واختزالها بالحرب الأهلية تارة وبالإرهاب تارة أخرى، مخطط هدف إلى تخويف السوريين وترهيبم، كي يقبلوا ببقاء الأسد أو تطعيم نظامه ببعض الوجوه المحسوبة على المعارضة.
لقد استخدم الغرب الأقليات في سورية وجعل منها أداة تعزز فرص بقاء نظام الأسد، الذي تماهى مع هذا المخطط فصور نفسه على أنه حامي الأقليات المدافع عنها في وجه إرهاب وتطرف الأكثرية (المسلمون السنة)، وقد نجحوا إلى حد كبير في مسعاهم فضمنوا ولاء شرائح عريضة منهم وحيدوا شرائح أخرى عن الصراع الدائر، ساعدهم في ذلك أن الأقليات لم تكن مستعدة للقبول بأي شكل من أشكال الحكم الإسلامي، بل فضلت نظام بشار الطائفي، متناسين أن الثورة السورية لم تكن طائفية بل كان هتافها لسورية والسوريين بكل أطيافهم.
تمدد الجماعات الإسلامية وسيطرتها على المشهد العسكري وتحقيقها للانتصارات على حساب الأسد وميليشيات إيران الطائفية وحرسها الثوري، إضافة للصمود الأسطوري لمدينة الزبداني فرض على اللاعبين الكبار سرعة التحرك والمبادرة لإنقاذ الموقف فالنظام انكفأ على نفسه في معظم الجبهات، ولم يعد قادرًا على المبادرة بأية هجومات، وبات همه ينحصر في الحفاظ على ما لديه من مناطق سميت فيما بعد "الدولة المفيدة" أي تلك التي تحقق هدف النظام في البقاء، بانتظار إعلان الانفصال أو مبادرة حل سياسي دولية بدأت مؤشراتها تلوح في الأفق.
إن ما نشهده اليوم من تحركات سياسية لم يكن وليد اللحظة بل بدأت إرهاصاته مع انعقاد اجتماعات كامب ديفيد بين الرئيس الأمريكي أوباما وقادة دول مجلس التعاون الخليجي، وما سرب عن أن أوباما قد طرح مشروع تأجيل إسقاط الأسد وحشد الجهود لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية وباقي الفصائل الجهادية، على اعتبار أن خطرها هو الداهم، وهو ما ترجم عمليًّا بزيارة علي مملوك إلى السعودية وإجرائه مباحثات مع المسؤولين فيها ليحط الحراك رحاله لاحقًا في الدوحة بلقاء ضم وزراء خارجية مجلس التعاون مع وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا، ليطير بعدها وليد المعلم وزير خارجية بشار إلى مسقط التي لا يمكن تجاهل دورها في هذا الحراك.
إن كل ما نشهده اليوم من حراك سياسي دولي يهدف بالدرجة الأولى إلى إعادة إنتاج نظام الأسد والشرعنة لبقائه بحجة الحرب على الإرهاب ومنع مؤسسات الدولة من الانهيار، وهو ما يعتبر تصرفًا لا أخلاقيًّا يضاف إلى سلسلة الممارسات اللاإنسانية لما يسمى مجتمعًا دوليًّا من تسويف ومماطلة سمحت للمجرم بقتل شعب كامل وتهجيره على مدى أكثر من أربعة أعوام، رغم أنه قد كان لدى القوى الكبرى كل الوقت لوقف نزيف الدم السوري لكنها لم تفعل، بينما نجدها اليوم تسابق الزمن في رحلة فرض حل يبقي على نظام العمالة والإجرام وكأني بهم يكافئونه على ما اقترفت يداه من جرائم يندى لها جبين البشرية، فهل يحق لهم فرض حل ينقذ الجاني من العقاب؟
إن كافة المعطيات على الأرض تقول بأن أي حل سياسي سيبقي على منظومة الإجرام الأسدي لن يكتب له النجاح، ليس بعد كل ما حدث من قتل ودمار وتهجير وانتهاك حرمات على يد عصابة لا تعرف ربًّا ولا دينًا ولا إنسانية، فقد كان من الممكن القبول بهكذا حلول في بداية الثورة لكن ليس بعد العام 2012 حيث ازدادت وتيرة التدمير والتهجير والقتل الممنهج التي أهلكت الحرث والنسل.
من المهم جدًّا أن تعي الولايات المتحدة ومن خلفها باقي المؤثرين في الشأن السوري أن ما كان يمكن القبول به في بداية الثورة قد أصبح من الماضي، وعليهم أن يعلموا أن فرض أي حل لا يلبي مطالب السوريين في الحرية والعدالة والانعتاق من نير الهيمنة الداخلية والخارجية، واختيار نوع وشكل الحكم الذي يرغبون فيه: لن يكون مقبولًا، فالشعب السوري الثائر دفع فاتورة كبيرة ويستحق أن يحيا بحرية وكرامة، وبالتالي فإن أي حل حقيقي يكمن في التعامل مع كافة أطياف الثورة دون استثناء وصولًا إلى إنتاج تمثيل حقيقي معترف به من قبل الشعب السوري.
إن فرض حل سياسي على الطريقة الروسية الأمريكية الإيرانية هو تكريس لبقاء النظام الفاشي بعد تلقيحه ببعض الإمعات والعملاء واللصوص، لن ينتج سوى نظام مسخ سيؤدي إلى استعار النار التي ستمتد لتحرق الجميع.