لم يستقر لقب الخنساء على السيدة تماضر بنت عمرو فقط، بل ظل يتنقل من امرأة لأخرى، وكان اللقب حاضراً في فلسطين، فهناك من عرفن بخنساوات فلسطين، إذ دفعن أبناءهن للحروب، وحثوهم على المضي قدماً للقتال، واستشهد عدد من أبنائهن.
وما زالت بعضهن يقدمن حتى بعد وفاتهن شهداء دفعنهم للقتال، فوسام فرحات قائد كتيبة الشجاعية الذي استشهد في معركة طوفان الأقصى هو ابن إحدى خنساوات فلسطين مريم فرحات. والخنساء هو اسم علم مؤنث يصف المرأة بانخفاض وسط أنفها وارتفاع طرفه، ويتم تسمية حيوان الظبي به، ومن الصحابيات حتى فلسطين تأتي عشرات القصص عن أمهات دفعن فلذات أكبادهن إلى ساحة القتال.
الخنساء تماضر بنت عمرو
أطلق لقب خنساوات فلسطين نسبة إلى الخنساء تماضر بنت عمر بن الحارث السلمية، عُرِفَت بتعبيرها عن رأيها بحرية وبقوة ليس لها مثيل بين نساء جيلها، وكانت نشأتها في بيت عز مع والدها وأخويها، وتبينت قوة شخصيتها عند رفضها طلب الزواج من أحد فرسان بني جشم، وهو دريد بن الصمة، وتزوجت من ابن عمها، ويسمى رواحة بن عبد العزيز السلمي، وأنجبت منه ولداً.
بعد فترة لم تدُم طويلاً طُلّقا، حيث إنه كان مقامراً ، ثم تزوجت ابن عمها مرداس وأنجبت منه 4 أولاد. ونالت تماضر شهرتها بين الناس وقتئذٍ لأنها كانت ترثي بالشعر أخويها صخر ومعاوية، واستمر رثاؤها لهما من الجاهلية حتى خلافة عمر رضي الله عنه، وثمة مقاربة بين رثائها ورثاء هند بنت عقبة بعد معركة بدر.
إذ قالت في نعي أخيها صخر:
وإنَّ صخراً لحامينا وسيّدنا
وإنَّ صخراً إذا نشتو لنحّار
وإنَّ صخراً لَتأتمُّ الهداةُ به
كأنَّه عَلَم في رأسِه نار
وقالت في أخيها معاوية:
أَلا لا أَرى كَالفارِسِ الوَردِ فارِساً
إِذا ما عَلَتهُ جُرأَةٌ وَعَلانِيَة
وَكانَ لِزازَ الحَربِ عِندَ شُبوبِها
إِذا شَمَّرَت عن ساقِها وَهيَ ذاكِيَة
وَقَوّادَ خَيلٍ نَحوَ أُخرى كَأَنَّها
سَعال وَعِقبانٌ عَلَيها زَبانِيَة
فَأَقسَمتُ لا يَنفَكُّ دَمعي وَعَولَتي
عَلَيكَ بِحُزنٍ ما دَعا اللهَ داعِيَه
تعرّضت تماضر لواقعتين مماثلتين بعد أن أسلمت وحسن إسلامها، إذ تحولت من الرثاء والبكاء على أخيها إلى الصبر والثبات، لتُضرب بها الأمثال، ففي الجاهلية أظهرت اليأس والاستسلام عند وفاة أخوَيها وكانت تطوفُ البيتَ الحرام محلوقةَ الرأس بالإضافة إلى اللطم على الخد.
أما في الإسلام، بعد استشهاد أولادها الأربعة، فقد نزل الرضا على قلبها، وحمدت الله بتماسك أعصاب وهدوء شديد، رغم فقدانها فلذات كبدها، لتصبح مَضرِبَ الأمثال، ومادةً للشعر عند شعراء الدولة الأموية. إذ أوصت الخنساءُ أبناءَها بالقتال والنِّزال، واستقبلت خبرَهم بالصبر والثبات ورجاء المثوبة من الله.
وجاءت وصية الخنساء مودعةً أبناءها قبل معركة القادسية، التي استشهد فيها أبناؤها الأربعة تقول فيها "فإن رأيتم الحرب قد شمَّرت عن ساقها، وجللت ناراً على أوراقها، فتيمَّموا وطيسَها وجالدوا رسيسَها، تظفروا بالغُنم والكرامة في دار الخلد والمقامة"، لتصبح مضرب المثل.
خنساوات فلسطين: أم رضوان الشيخ خليل
تمثل أم رضوان إحدى الذين كانوا في قائمة خنساوات فلسطين، كحال النساء الغزاويات اللاتي يتربَّين على المقاومة وشهادة أولادهن، سعت أم رضوان لتربية أولادها الخمسة على القتال، فوضعتهم إسرائيل على قائمة المطلوبين، تلقت فاطمة الشيخ خليل العديد من الألقاب، منها خنساء فلسسطين، وخنساء الأمة، وخنساء العصر، فقد تلقَّت خبر شهادة أولادها الخمسة بنفس راضية مطمئنة بقضاء الله وقدره.
ودَّعت فاطمة الشيخ خليل أولادها الخمسة (شرف وأشرف ومحمود ومحمد وأحمد)، فكانت الشهادة الأولى لأشرف، الذي استُشهد في اشتباك مسلح مع الاحتلال على حدود فلسطين، في 1 يوليو/تموز1991، حيث نفَّذ هجوماً على سيارات للمخابرات الإسرائيلية، واستشهد وهو ينفذها.
ثم استشهد شرف في اشتباك مسلح، وكانت العملية الخاصة به هي التصدي لقوات الإنزال البحري لجيش الاحتلال، وكان مكانه في وسط البحر، بالقرب من مخيم نهر البارد، في مطلع فبراير/شباط 1992م، وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2004، استهدف الابن الثالث محمود، إذ استهدف بيته بصاروخ في مخيم يبنا في رفح.
والشهيد الرابع كان من مؤسسي "سرايا القدس" في فلسطين، التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، وقائدها محمد الشيخ خليل "الهشت"، إذ نفذ وأشرف على تنفيذ العديد من العمليات ضد الاحتلال، كما درب عسكرياً الكثير من المقاومين، واستشهد في 25 سبتمبر/أيلول 2005م، أثناء تنفيذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة.
الشهيد الخامس أحمد، كان أحد أعلام وحدة التصنيع في سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، توفي في عام 2016 في مصر أثناء رحلة علاج هناك.
أم نضال فرحات
لُقبت مريم فرحات بخنساء فلسطين عن جدارة خلال الانتفاضة الثانية، ولدت مريم في حي الشجاعية، شرق غزة، في عام 1949م، وكانت من الفائقات دراسياً، وتزوجت فتحي فرحات في بداية دخولها الثانوية العامة، ورُزقا ابنهما البكر، وتمكنت من النجاح في الثانوية العامة رغم كثرة انشغالها.
أعدت مريم أولادَها على النضال ضد الاحتلال، ما أدى إلى استشهادهم في أوقات مختلفة، وكانت الشهادة الأولى من نصيب ابنها الأصغر محمد فرحات، وكان في سن 17 عاماً، نفَّذ اقتحاماً لمستوطنة صهيونية في عام 2002م، استطاع محمد أن يَقتل بمفرده 9 جنود من المحتلين، وأصاب عدداً منهم، حوالي 20 جندياً آخر بجروح عميقة، طبقاً لما أصدره تقرير للمحتلين.
الشهادة الثانية كانت لابنها البكر نضال فرحات، في عملية اغتيال عام 2003، إذ كان نضال فرحات هو مؤسس وحدة الصواريخ في القسام، نفَّذ جيش الاحتلال عملية اغتياله ونضال يجهز مع إخوانه طائرةً صغيرةً بها عبوة ناسفة، في وحدة التصنيع العسكرية، أطلقت كتائب القسام عليها اسم أبابيل لاحقاً.
ثم استشهد ولدها رواد فرحات وهو يقاوم ضد الاحتلال، وتمكَّن من الوصول إلى الصف الأول في كتائب القسام، وتصدّى لكثير من الحملات الصهيونية المتكررة، اغتِيل في عام 2005م، بسبب قصف سيارته.
تمكنت مريم فرحات من تربية أولادها على المقاومة ضد الاحتلال، ودعمت الكثير من المقاومين؛ إذ استضافت المناضل عماد عقل، الذي اغتاله الاحتلال في منزلها، اختيرت في عام 2006 في المجلس التشريعي لحركة حماس، وتوفيت عام 2013، واستشهد ولدها الرابع أبو حسين وسام فرحات في معركة "طوفان الأقصى" 2023.
أم إبراهيم الدحدوح
أصبحت أم إبراهيم الدحدوح إحدى خنساوات فلسطين؛ إذ تحوَّلت إلى رمز أيضاً في الانتفاضة الثانية، فقدت أم خالد ثلاثة من أبنائها، كما انخرطت في فترات بدعم المقاتلين والمقاومين في سرايا القدس، التابعة لحركة الجهاد الإسلامي.
أول أبنائها استشهاداً هو أيمن الدحدوح، الذي انتمى إلى وحدة التصنيع في سرايا القدس، واستُهدف في فبراير/شباط 2004، تولى خالد الدحدوح قيادة سرايا القدس خلفاً لمحمد الشيخ خليل "الهشت" بعد استشهاده، وفي شمال قطاع غزة ارتقى خالد الدحدوح شهيداً، توفي خالد الدحدوح عن عمر 40 عاماً بسيارة مفخخة، في مارس/آذار 2006.
كما استشهد بعد خالد بشهرين فقط أخوهم الثالث محمد الدحدوح، إذ استهدفته سيارته بغارة، وقد كان محمد المسؤول عن تطوير صواريخ الكاتيوشا لحركة الجهاد الإسلامي. وقدمت عائلة الدحدوح الكثير من المقاومين والشهداء، كما استُشهد اثنان من أحفادها، هما كامل وأدهم خالد الدحدوح فيما بعد.
أم ناصر أبو حميد
من خنساوات فلسطين أم ناصر التي أسر لها سبعة أبناء، دمر الصهاينة بيتها أمام عينيها، وأسروا ستة من أولادها دفعة واحدة، ونال السابع الشهادة. اسمها الحاجة لطيفة محمد ناجي، في السبعينات من عمرها، تزوجت الشهيد محمد يوسف ناجي، الشهيد الكفيف، الذي قتلته قوات الاحتلال بعد أسره مرتين.
استشهد ابنها عبد المنعم، المعروف باسم "صائد الشاباك"، إذ استطاع قتل ضابط "الشاباك" الإسرائيلي في الضفة الغربية مع عنصرين في كمين مُحكم نصبه لهم في المنطقة الصناعية القديمة، بالقرب من قرية بيتونيا جنوب رام الله، في 13 فبراير/شباط 1994، قبل أن يغتاله الاحتلال بتاريخ 31 مايو/أيار 1994، بعدما أدى صلاته في المسجد الأقصى المُبارك، فداهمته القوات الخاصة للاحتلال، وأطلق أفرادها تجاهه 150 رصاصة.
لديها 10 أبناء، مرّوا جميعهم على سجون الاحتلال، بالإضافة إلى حفيدها وشقيقها حسين براج، الذي استشهد بعد فترة، بالإضافة إلى موت جنينها في بطنها في الشهر الثامن على يد قوات الاحتلال. لُقبت بخنساء فلسطين، إذ كانت هذه المرة في مخيم الأمعري في الضفة الغربية، بعد أن هاجرت هي وزوجها من مخيم النصيرات في غزة باتجاه الضفة، وتحوَّلت إلى رمز، إذ ينتمي أبناؤها إلى كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.
واستشهد لها ابن ثانٍ في السجن بمرض السرطان، عام 2022، هو الأسير ناصر، ومازالت إسرائيل تحتجز جثمانه، ويذكر أن ناصر استطاع تهريب نطفة له عام 2019 لُقحت بها زوجته وأنجبت طفلاً سمّاه يمان عام 2019.