لم يكن اليوم الذي خرج فيه المصريون في ثورة يناير/كانون الثاني عام 2011 محض صدفة، فيوم 25 يناير/كانون الثاني هو العيد السنوي للشرطة المصرية، وقد اعتبر من عام 2009 يوم عطلة رسمية في البلاد، تخليداً لذكرى أحداث الإسماعيلية 1952 عندما خرج المصريون ليحرقوا القاهرة.
تأتي الأحداث التي شهدتها محافظة الإسماعيلية المصرية في إطار الكفاح المسلح الذي قام به المصريون ضد الاحتلال البريطاني في قناة السويس، على مدار عام منذ إلغاء النحاس باشا اتفاقية 1936م في عام 1951 من طرف واحد، تحول خط القناة من السويس وحتى بورسعيد شاهداً على عمليات فدائية، واشتباكات غايتها إجلاء الإنجليز عن مصر.
في تلك الأثناء حدثت واقعة في محافظة الإسماعيلية أدت لانتفاضة الشعب المصري، كانت تلك الانتفاضة التي وقعت في اليوم التالي للحادث 26 يناير/كانون الثاني 1952 هي ما يعرف بحريق القاهرة الكبير، الذي يعتبره المؤرخون الحدث الأبرز الذي كان علامة على نهاية الحكم الملكي في مصر، إذ قام الضباط الأحرار بعدها بأشهر معدودة بتحركات عسكرية لإزاحة الملك في يوليو/تموز من نفس العام.
مقدمات حريق القاهرة
بالعودة قبل يوم 25 يناير بعد الحرب العالمية الثانية دخلت الحكومات المصرية في اتفاق مع البريطانيين لاحتواء أزمة البطالة التي خلفتها الحرب، إذ كانت بريطانيا قد أرهقت مصر في الحرب، لم تفِ بريطانيا باتفاقها نظراً لتأزمها اقتصادياً، ومع تصاعد الأزمة زادت الضغوط الشعبية على الحكومات، واندلعت مظاهرات 1946 و1947، وتلتها حرب 1948، ما دفع حكومة الوفد لطلب جلاء الإنجليز جلاءً ناجزاً في صيف 1950.
مع محاولة الوصول إلى اتفاق جلاء تعنتت بريطانيا ولم تتنازل عن وجودها العسكري في قناة السويس، ونفوذها الكبير في القاهرة، فيما ذهبت حكومة النحاس باشا الوفدية تحت ضغوط شعبية كان أحد أسبابها حرب 1948، في 16 أكتوبر/تشرين الأول 1951م ألغت الحكومة الاتفاقية التي أبرمتها في عام 1936.
ألغت الحكومة أيضاً اتفاق الحكم الثنائي للسودان الذي أبرم 1899م، وأعلنت توحيد مصر والسودان، إذ كان هذا الفعل يرفع الشرعية عن الوجود البريطاني في قناة السويس، وفي السودان أيضاً، دفعت حكومة الوفد أكثر من 80 ألف موظفاً مصرياً يعمل في معسكرات البريطانيين للإضراب وترك وظائفهم. وقد كان ذلك هو سبب حدوث موقعة الإسماعيلية.
وتعتبر مقدمات يوم 25 يناير هو إضرب العمال عن تفريغ شاحنة "مالابار" التي كانت تحمل الأسلحة للجيش البريطاني في ميناء بورسعيد، كما أطفأوا المنارات التي ترشد السفن، وامتنعوا عن شحن وتفريغ السفن على الإطلاق، كما امتنع موردو التموين للجيش البريطاني عن إرسال الغذاء كاللحوم والخضراوات.
وخلال شهرين سجل أكثر من 80 ألف موظف مصري كانوا يعملون مع البريطانيين أسماءهم للانضمام إلى حركة الكفاح المسلح، كما أن الأنشطة الفدائية اشتعلت على طول خط القنال. ومع تدفق 75% من متطلبات الغذاء إلى معسكرات البريطانيين، أصدرت حكومة الوفد قانوناً بالسجن المشدد وغرامة ألف جنيه للتجار الذين يرسلون الأغذية للاحتلال.
الاحتلال يغضب: موقعة الإسماعيلية
خلال فترة الهجمات الفدائية على معسكراته، وقطع الإمدادات عنه، توترت العلاقة بين بريطانيا المنهكة من الحرب العالمية الثانية وحكومة النحاس، ففي صباح الجمعة يوم 25 يناير/كانون الثاني عام 1952 استدعى القائد البريطاني بمنطقة القناة "البريجادير أكسهام"، ضابط الاتصال المصري وسلمه إنذاراً يأمره فيه بتسليم قوات الشرطة المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية.
كما أمره بإخلاء مبنى محافظة الإسماعيلية، لأن الاستخبارات العسكرية وجدت أن الهجمات التي تشن على المعسكرات تعاونها الشرطة المصرية في الهروب والتغطية، إذ اقتضى الشرط البريطاني جلاء الشرطة بالكلية من محافظة الإسكندرية والرحيل إلى القاهرة، كان ذلك ضمن حملة تمشيط تجريها القوات البريطانية لمنع العمليات الفدائية.
رفضت قوات الشرطة المصرية الإنذار البريطاني وأبلغته إلى فؤاد سراج الدين وزير الداخلية في هذا الوقت، والذي طلب منها الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام، زاد غضب القائد البريطاني في القناة وأمر قواته بمحاصرة قوات شرطة الإسماعيلية وإطلاق نيران مدافعهم بطريقة وحشية لأكثر من 6 ساعات في يوم 25 يناير، في الوقت الذي لم تكن فيه قوات الشرطة المصرية مسلحة إلا ببنادق قديمة الصنع.
في صباح يوم 25 يناير حاصر أكثر من 7 آلاف جندي بريطاني مبنى محافظة الإسماعيلية والثكنات التي كان يدافع عنهما 850 شرطياً، ما جعلها معركة غير متساوية القوة بين القوات البريطانية وقوات الشرطة المحاصرة بقيادة الضابط مصطفى رفعت حتى استشهد منهم 50 شرطياً، وأصيب أكثر من 70 شرطياً رفض جيش الاحتلال إسعافهم، كما أسر شرطيين بعد سقوط المبنى في يد الاحتلال، واستمر الأمر بعدها لساعات عندما قامت فرق من الجيش البريطاني بهدم بعض القرى على المدنيين.
المصريون يحرقون القاهرة
طوال يوم 25 يناير/ كانون الثاني تابع المصريون الإذاعة والأخبار القادمة من الإسماعيلية طوال يوم الجمعة، وفي صباح يوم السبت 26 يناير/كانون الثاني، خرج المارد من قمقمه بشكل عفوي، إذ خرجت جموع بسيطة أول الأمر تحتج، شاركت فيها فرق من البوليس، وطلاب جامعة القاهرة في الجيزة، واتجهت المظاهرة التي كانت تزيد معبرة عن الغضب الشعبي باتجاه مجلس الوزراء.
تحولت الهتافات بسرعة ضد حكومة الوفد، وهو الأمر المربك الذي سيجعل بعض المحللين يفترضون أنها كانت بدعم بريطاني وأمريكي لإسقاط الحكومة التي أطلقت شرارة الثورة والجلاء في خط القنال، كانت الهتافات تدور حول "فين السلاح"، وعند وصول المظاهرة إلى مجلس الوزراء خرج وزير الشؤون الاجتماعية عبد الفتاح حسن لتهدئة المتظاهرين، لكنه لم يفلح ليعلن قرار حكومة النحاس بقطع علاقتها ببريطانيا وأمريكا، وستبدأ التعاون مع الاتحاد السوفييتي واستيراد السلاح منه.
اتجهت مظاهرات أخرى إلى ملهى "بديعة مصابني" وأشعلوا فيه النيران بغية الانتقام من المتمتعين من الباشوات والإقطاعيين أثناء ما كانت تسيل دماء المصريين في الإسماعيلية، لم تنتهِ المظاهرات هنا بل استهدفت كل مصالح الإقطاعيين ورجال الأعمال الذين تربطهم علاقات بالإنجليز، إذ تحول شارع فؤاد وميدان الإسماعيلية "التحرير حالياً" وشارع الهرم إلى كتلة نارية في غضون ساعات.
اليوم التالي لموقعة الإسماعيلية
في اليوم التالي ليوم 25 يناير أُحرقت سينما ريفولي في شارع فؤاد، وبجوارها 150 محلاً تجارياً تم إحراقها، كان الشارع يحاكي شارع الشانزليزيه، أحرق فندق شبرد وفندق سميراميس، باستخدام صفائح من المواد القابلة للاشتعال برشها على البضائع والأثاث والسلع داخل المباني. أخلت الشرطة القاهرة وعاثت الفوضى في البلاد.
كانت المغنية الفرنسية سوزى سوليدور في فندق شبرد وكانت شاهدة على الأحداث من حرق الأثاث والسجاد، وفرت من الفندق واحترقت كل ممتلكاتها ومقتنياتها التي تركتها، ورفعت قضية فيما بعد على الملك فاروق تطلب منه تعويضها بـ5.5 مليون فرنك فرنسي جراء احتراق مقتنياتها وملابسها، في الوقت الذي كانت تهتف فيه الجماهير وهي تحرق الفندق "حرب وثورة".
انهار فندق شبرد وقتل فيه عدد من النزلاء، إذ بلغ عدد القتلى في القاهرة يومها 26 قتيلاً، وعشرات الجرحى التي عجت بهم مستشفيات القاهرة، بين حرق واختناق وجروح جراء محاولة الهرب. كما احترق بنك باركليز، كما شوهد المتظاهرون يقتلون بريطانياً في نادي تورف كلوب بإلقائه من شرفة، كما ألقي آخرون من شرفة مبانٍ على كورنيش النيل.
شملت الحرائق الغرفة التجارية الفرنسية، والقنصلية السويدية، ووكالات السيارات، ومخازن الأسلحة، والجبة خانة، وكل وكلاء الإنجليز والفرنسيين، وذهب السفير الأمريكي فوراً إلى الملك يطلب منه إنزال الجيش المصري لحماية مصالح البريطانيين، وإلا سترسل بريطانيا القوات من القناة إلى القاهرة، ما دفع الملك لإنزال الجيش المصري إلى الشوارع.
ما بعد حريق القاهرة
في مشهد مشابه لما حدث في يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011، اندفع الجيش إلى الشوارع، ما مكنه من تنفيذ انقلابه بعدها بأشهر، بل واطمئنان الأمريكيين إلى أن تحول مصر إلى حكومة شيوعية يضر بمصالحها، فدعمت الإصلاح الزراعي، وخروج البريطانيين من مصر كونهم أحد الأسباب التي قد تدفع هذا القطر نحو الاتحاد السوفييتي.
أما حجم الخسائر فقد قدرت بين 40-70مليون جنيه مصري وقتها، إذ كان الجنيه وقتها يساوي 4 دولارات، أي بين 160 و280 مليون دولار، ووقتها كانت قيمة الدولار 10 أضعاف قيمته اليوم، ما يعني أن حجم الخسائر قد يتجاوز 1.6 مليار دولار بحسبة اليوم.
أتت النيران على 700 مبنى، منهم 13 فندقًا أبرزهم شبرد وفندق مترو بوليتان وبلازا فيكتوريا، واحترق أكثر من 300 متجر أبرزهم محلات شيكوريل وعمر أفندي والصالون الأخضر، واحترق أكثر من 73 مطعم وملهى أبرزهم ملهى الأوبرا وملهى تورف وملهى بديعة، ومقهى الأمريكيين ومقهى جروبي.
سقطت حكومة النحاس، وبعدها سقطت 4 حكومات في 6 أشهر إلى أن حدث انقلاب 23 يوليو/تموز 1952 بقيادة الضباط الأحرار، فيما اعتبر البعض أن تلك الأحداث رتبها الأمريكيون لإسقاط حكومة النحاس بالاتفاق مع البريطانيين، حيث يعتبرها البعض مدعومة أمريكياً لكن هذه المرة لدفع الجيش كلاعب سياسي بدلاً من الملك.في الوقت الذي تغفل فيه العديد من التحليلات حقيقة الغضب الذي كان محركاً للأحداث، وهو ما تكرر بعد 59 عاماً في يوم 25 يناير عام 2011، عندما اتجهت الجموع المصرية لإحراق مقرات الحزب الوطني ومقرات الشرطة، هذه المرة كانت الشرطة هي المستهدف لما كانت تصنعه في عهد مبارك، فهو في النهاية تراكم للغضب؛ تارة ضد الإنجليز والمتعاونين معهم، ومرة ضد الشرطة والنظام المصري.