في سياسةٍ تتبعها منذ العام 1948، دأبت إسرائيل على احتجاز جثامين الفلسطينيين في أماكن سرية يُطلق عليها اسم "مقابر الأرقام"، من دون إعطاء أي معلوماتٍ حول أماكنها، وسط أخبارٍ شبه مؤكدة عن سرقة أعضاء الجثامين وإيداعها فيما يُعرف بـ"بنك الجلد" لمعالجة الإسرائيليين.
أكثر من 370 شهيداً فلسطينياً، من بينهم نساء وأطفال، تحتجز إسرائيل جثامينهم في ثلاجات -لسنواتٍ طويلة أحياناً- قبل أن تنقلهم إلى مقابر الأرقام. وآخر الشهداء المحتجزة جثامينهم هو الأسير ناصر أبو حميد، الذي استُشهد في أواخر 2022، بسبب الإهمال الطبي في سجون الاحتلال.
كل ما تريد معرفته عن مقابر الأرقام
هذه المقابر مصنّفة مناطق عسكرية، لا يمكن لأحدٍ الدخول إليها من دون إذنٍ مسبق من جيش الاحتلال، ولم تُعرف بعض التفاصيل عنها إلا مؤخراً. وقد سُمّيت بـ"مقابر الأرقام"، لأن إسرائيل تتعمد عدم كتابة أسماء الشهداء عليها، بل تضع أمام كل قبر لافتة حديدية تحمل رقماً يرمز إلى الشهيد.
وإضافةً إلى جثامين الشهداء الفلسطينيين، تحتجز سلطة الاحتلال جثامين شهداء عرب أيضاً -لا سيما من منفذي العمليات الفدائية- وقد اتخذت منها في كثير من الأحيان ورقةً تفاوضية، ولم تسلّمهم إلا من خلال صفقات تبادل أو غيرها.
مع الوقت، توسّع مفهوم مقابر الأرقام وممارساتها، وأصبحت تضمّ جثث الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال أيضاً. لم تكتفِ إسرائيل باحتجاز الأسرى أحياءً فقط، بل تريد احتجازهم بعد قتلهم أيضاً. وهل هناك إجرام أكبر من ذلك؟
أجازت المحكمة العليا الإسرائيلية في العام 2015، وهي أعلى مرجع قضائي في دولة الاحتلال، سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين رغم عدم وجود قانونٍ محلي أو عالمي يسمح بذلك؛ وإنما بموجب قرارٍ سياسي أيّدته المحكمة، حتى إن قرار احتجاز جثمان الشهيد ناصر أبو حميد اتُّخذ من قِبل وزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس.
في حديثٍ إلى قناة "الجزيرة"، قال عصام العاروري -وهو ممثل الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء- إن مبررات إسرائيل لاحتجاز جثامين الفلسطينيين تتغير من فترة إلى أخرى، "لكنها في كل الأحوال متاجرة بجثامين الموتى". ويشير إلى أن هناك جثامين مضى على احتجازها في مقابر الأرقام أكثر من 50 عاماً.
يشكّل هذا الاحتجاز اختراقاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني، لا بل يرقى إلى مستوى جريمة حربٍ تُضاف إلى الجرائم الكثيرة التي ترتكبها إسرائيل مراراً وتكراراً بحق الفلسطينيين.
أعداد وأماكن مقابر الأرقام الإسرائيلية
لا توجد معلومات أكيدة وواضحة حول أعداد مقابر الأرقام وأماكنها. اكتُشف بعض تلك المقابر مصادفة، أو من خلال صحافة الاحتلال ذاتها. من جهته، أعلن جيش الاحتلال في العام 2003 عن وجود مقبرتين فقط، لكن تبيّن لاحقاً أن هناك 5 مقابر على الأقل.
ولكن حتى الساعة، عُرف من مقابر الأرقام أربع. ووفقاً لوكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، فهي موزعة على الشكل التالي:
1. مقبرة الأرقام المجاورة لجسر "بنات يعقوب": تقع في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الإسرائيلية السورية اللبنانية، ويوجد فيها ما يقرب من 500 قبر لشهداء فلسطينيين ولبنانيين، غالبيتهم ممن سقطوا في حرب 1982 وما بعد ذلك.
يُقال إن هذه المقبرة أُغلقت نهائياً في العام 2001، بعد نقل الجثامين المتبقية فيها إلى مقبرة "عميعاد". اشتهرت هذه المقبرة بعد لجنة تحقيق عسكرية إسرائيلية تشكلت في العام 1999 للبحث عن جثمانَي الشهيدين عيسى زواهرة وباسم صبح، بعد التماسين قدّمهما أهاليهما إلى المحكمة العليا الإسرائيلية للمطالبة بالإفراج عنهما.
وقد تبيّن من التقرير النهائي الذي قدمته هذه اللجنة، بعد زيارتها لمقبرة "جسر بنات يعقوب"، أنه تتم معاملة جثامين الشهداء بإهمالٍ واضح ومتعمّد، من دون الاهتمام بوسائل التعرف عليها في المستقبل.
2. مقبرة الأرقام الواقعة في المنطقة العسكرية المغلقة، بين مدينة أريحا وجسر دامية في غور الأردن: محاطة بجدار فيه بوابة حديدية، تحمل لافتة كبيرة كُتب عليها بالعبرية: "مقبرة لضحايا العدو"، ويوجد فيها أكثر من 100 قبر تحمل أرقاماً تتراوح بين 5003 و5107.
3. مقبرة "ريفيديم" وتقع في غور الأردن، ولا يُعرف عدد قبورها أو الجثامين التي تحتجزها.
4. مقبرة "شحيطة": تقع في قرية وادي الحمام، شمال مدينة طبرية الواقعة بين جبل أربيل وبحيرة طبرية. غالبية الجثامين المحتجزة فيها تعود لشهداء معارك منطقة الأغوار بين عامي 1965 و1975.
وفي الجهة الشمالية من هذه المقبرة، يصطف نحو 30 ضريحاً في صفين طويلين، فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً. هذه المقابر ليست سوى مدافن رملية قليلة العمق، ما يعرّضها للانجراف في أي لحظة، فتظهر الجثامين وتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة.
فمنذ العام 1996 وحتى 2008، جرت 4 صفقات تبادل أسرى وجثامين بين الاحتلال الإسرائيلي وحزب الله اللبناني. وكان من المفترض أن يكون جثمان الشهيدة دلال المغربي من بين الجثامين المُطلق سراحها في صفقة العام 2008، لكنه لم يُسلّم. وادعت سلطات الاحتلال حينئذٍ أنها لم تعثر عليه، وأنه قد يكون انجرف بفعل انهيار التربة إلى خارج حدود المقبرة.
تدعي مصادر صحفية إسرائيلية أن جثمان كل شهيد يُنقل الى معهد التشريح، حيث تؤخذ منه عينات دم لإنشاء بطاقة خاصة تُحفظ في ملفات قيادة المنطقة ووزارة جيش الاحتلال، وفقاً لأمرٍ يُصدره قائد المنطقة العسكري.
تُسجل في البطاقة كل التفاصيل المعروفة عن الشهيد، وضمن ذلك اسمه وسبب وفاته حسب التشخيص الإسرائيلي طبعاً، ثم يتم تصوير الجثة، قبل لفها ببطانية وبالنايلون بعد ذلك، وتوضع في أكياس بلاستيكية.
تُدفن الجثامين على انفراد في صناديق خشبية منفصلة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وتدفن أرقامها التعريفية معها على شكل قطعة حديدية موضوعة داخل زجاجة أو إطار، وتُنصب فوق القبر لافتة حديدية تحمل رقم تعريف الجثة.
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن أمهات عددٍ من الشهداء في الأراضي الفلسطينية كنّ أطلقن حملة "صرخة أمهات"، تطالب باسترداد جثامين أبنائهن من أَسْر الاحتلال الإسرائيلي الذي يبقيها لسنوات في ثلاجات أو في مقابر تحمل أرقاماً فقط.
وكان فريق برنامج "للقصة بقية" الذي يُعرض عبر قناة الجزيرة، حاول الوصول في يناير/كانون الثاني 2023 إلى إحدى مقابر الأرقام، التي يتكتم عليها الاحتلال الإسرائيلي، لكنه لم يستطع الوصول إليها، بعدما اعترض جيش الاحتلال طريقه وطالبه بالعودة فوراً.
جاء ذلك ضمن حلقةٍ كاملة سلّطت الضوء على معاناة عائلات الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال الإسرائيلي، والتي لا تطالب بجثامين أبنائها إلا لدفنها على نحوٍ يليق بها.