خلال العدوان الأخير لإسرائيل على قطاع غزة منذ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر /تشرين الأول الماضي، شنت إسرائيل عدوانها على وسائل التواصل الاجتماعي عبر جهاز الهسبراه، وذلك لنشر روايتها في وسائل الإعلام الغربية الداعمة لها.
لم يكن هذا التوجه حديث الصدفة أو في الحرب الأخيرة فقط، بل يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، وخاصة بعد مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها حلفاء العدوان الإسرائيلي في لبنان سنة 1982، واجه الاحتلال الإسرائيلي تحدياً جسيماً لمواجهة تشويه صورته أمام العالم. استنتجت الحكومة الإسرائيلية أن هناك حاجة مُلحَّة لتعزيز العلاقات العامة بهدف الدفاع عن سمعتها وتحسين صورتها الدولية.
اتخذ على إثرها الاحتلال الإسرائيلي إجراءات فورية من خلال إقامة هياكل مؤسسية دائمة، تهدف إلى التحكم في الصورة العامة للدولة وتوجيه تصوّر الأمريكيين والعالم الخارجي حيالها.
في عام 1983، أعلنت إسرائيل عن انطلاق مشروع "الهسبراه" (Hasbara)، الذي كان يهدف إلى بناء صورة إيجابية عن إسرائيل في وسائل الإعلام الأمريكية. شملت جهود المشروع أيضاً تدريب الدبلوماسيين الإسرائيليين وعقد اجتماعات مع الصحفيين الأمريكيين عبر القنصليات الإسرائيلية في جميع أنحاء العالم.
هذه الخطوات تعكس التزاماً مستمراً بتعزيز التواصل وفهم دولي إيجابي للقضايا المتعلقة بإسرائيل.
الهسبراه الإسرائيلي والإعلام الزائف
طوَّرت إسرائيل على مدى 40 سنة مشروع "الهسبراه"، فيما بذلت المزيد من الأموال والتدريبات التي تستهدف الدبلوماسيين الإعلانات مدفوعة الأجر بالإضافة إلى الصحفيين، إذ أنفقت حوالي 7 ملايين دولار أمريكي على هذا الجهاز خلال الأسبوع الأول فقط من طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
كانت إسرائيل تسعى جاهدة إلى السيطرة على مجريات المعلومات على مدى سنوات طويلة خلال مختلف مراحل النزاع، حتى قبل ظهور الإنترنت. ومع تقدم التكنولوجيا، نجحت إسرائيل في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر حملات دعائية وتلفيق معلومات خطيرة، ما أدى إلى وصولها بسرعة إلى جماهير تعد بالملايين.
تنقسم الدعاية الإسرائيلية إلى ثلاثة أقسام متنوعة، تستهدف فئات مختلفة بأساليب متنوعة وغايات محددة.
- القسم الأول: تركز الدعاية الداخلية على الفلسطينيين، وتعتمد على تقنيات مخفية، مثل بث مقاطع فيديو تظهر عناصر من كتائب القسام يعترفون بعد اعتقالهم بطريقة ذليلة. يعتبر هذا الأسلوب الدعائي فاشلاً في التأثير، ويستند أيضاً إلى بث شائعات لتخويف الناس في الضفة الغربية. النجاح هنا يعود إلى عدم وجود جهة رسمية ترد على هذه الادعاءات.
- القسم الثاني: يستهدف هذا القسم الإسرائيليين مباشرة، حيث يتم بث مقاطع فيديو تظهر مطاردة جنود الاحتلال لعناصر من كتائب القسام وقتلهم، بهدف ترميم صورة الجيش أمام الرأي العام وإثبات قدرته على تحقيق نتائج إيجابية على الأرض.
- أما القسم الثالث: فموجّه إلى الجمهور العالمي، حيث تعقد حكومة الاحتلال مؤتمراً صحفياً للصحافة الأجنبية لتقديم ادعاءات تبرر الاحتلال لمجازره في قطاع غزة، مثل اتهام حماس باستخدام الناس والمدنيين كدروع بشرية.
رغم غياب أي آلية منظمة لمواجهة الحملة الإعلامية الإسرائيلية، يظهر أن هناك اختراقات إيجابية في الرأي العام العالمي. يُعزى هذا التأثير إلى الجرائم البشعة التي ارتكبت ضد أهالي غزة ووحشيتها، ما أدى إلى تحوّل في مشاعر الجماهير التي عادت لتحشد دعماً جديداً لصالح غزة.
الحرب الإعلامية خلال أحداث غزة
خلال الأسبوع الأول للصراع، اجتمعت طواقم وزارة الخارجية الإسرائيلية بشكل مكثف، حيث بلغ عدد الاجتماعات 250 جلسة إحاطة مع المراسلين الخارجيين. تم إجراء 640 مقابلة في لغات متعددة، ونُشرت أكثر من ألف منشور بالإنجليزية والفارسية والروسية والإسبانية والفرنسية، فيما حققت هذه المنشورات أكثر من 320 مليون مشاهدة.
يعود هذا النشاط إلى عدة مؤسسات ووزارات ومراكز في إدارات الإحتلال الإسرائيلي ، حيث يلعب مركز هرتسيليا والمقر الدعائي المدني دوراً رئيسياً. يقوم هذان المركزان بتدريب آلاف الطلاب والمتطوعين والموظفين على نشر المعلومات والرد على التعليقات، بالإضافة إلى إنشاء قصص مؤثرة بشتى اللغات، وصناعة وتوزيع المحتوى.
النتيجة النهائية هي تكوين جيش إلكتروني مختص في "غسل العقول"، خاصة تلك التي لا تحمل وجهة نظر محددة حول القضية الفلسطينية. فيما وصف أحد الصحفيين الإسرائيليين هذا الصراع الدعائي بأنه "حرب الاستقلال الثانية".
عندما يتعلق الأمر بالتغطية الإعلامية لأحداث غزة، يظهر تحدياً كبيراً أمام الصحفيين نتيجة لعزل الجيش الإسرائيلي لهذه المنطقة عن العالم. يواجه الصحفيون صعوبات في تتبع الأحداث وفهم الحقيقة الميدانية، ما دفع ببعض الصحف العالمية إلى التشكيك في تقارير وزارة الصحة الفلسطينية خلال الحرب. تساؤلات حول مصداقيتها أثارت استفهاماً يتساءل فيه البعض عن الحاجة للإيمان بها.
فيما يخص التغطية الإعلامية، اعتمدت الصحافة العالمية على التحديثات المدعمة بالفيديو حول الأوضاع في غزة، التي تم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى اعتمادها على المراسلين العاملين من داخل إسرائيل لتغطية الصراع.
في هذا السياق، يسعى المراسلون المحليون على الأرض إلى البقاء على قيد الحياة خلال القصف الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى خسارة أكثر من 20 صحفياً حتى اللحظة. هؤلاء الأفراد يجسدون التحديات الحقيقية التي تواجه الصحافة في هذا السياق.
مع العزلة التي فرضتها إسرائيل على غزة، بدأت بتشكيل سيناريوهات وتضليل حول جرائم الحرب المزعومة. وعلى الرغم من عدم وجود صحافة دولية محايدة تماماً، فإن بعض الأدلة التكنولوجية ومقاطع الفيديو أشارت إلى تضليل الحقائق من قبل إسرائيل، ما أدى إلى شكوك وتساؤلات من قِبل بعض القنوات والصحف الغربية.
تلاشي نظام الهسبراه وكشف الأكاذيب
يبدو أن إسرائيل استفادت بشكل كبير من تجارب الحروب السابقة، خاصة حرب روسيا وأوكرانيا، حيث اعتمدت بشكل متزايد على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي جعلها تستخدم الذكاء الصناعي في تزييف الأدلة، وهو الأمر الذي جعل من السهل كشف الأكاذيب حتى عن بُعد.
تجربة إسرائيل في تزييف الأخبار والأدلة أدت إلى جعل روايتها في أكثر الحالات هشاشة، وذلك بشهادة الرأي العام العالمي. وقد ظهر ذلك بوضوح عندما وقف الرئيس إسحاق هرتسوغ وهو يحمل ورقة مطبوعة بالألوان تحمل دليلاً يُزعم أنه تم العثور عليه على جثة أحد قتلى حركة حماس. هذا المشهد، الذي بدا مقصوداً، كشف إلى أي حد وصلت إسرائيل في تلفيق الأخبار والأكاذيب لتبرير جرائمها في قطاع غزة.
تعليقات القراء الأجانب على هذا الموقف كانت ساخرة ولاذعة، حيث قيل إنهم يتساءلون متى ستعلن إسرائيل أن صدام حسين انضم إلى حماس، ولماذا يحمل مقاتل يو إس بي معه إلى المعركة؟. هذا التجربة في التضليل أثرت سلباً على الصورة العامة لإسرائيل، وقد ربطها بتجارب سابقة من قِبل الولايات المتحدة في حرب العراق، حيث تبين بعد مرور عقد من الزمان أن الأسلحة التي زُعم وجودها لم تكن موجودة، وتم الاعتراف بفشل الاستخبارات الأمريكية في العثور عليها.