في ظل النضال المستمر من أجل الحرية، واسترجاع الأراضي المحتلة من الكيان الإسرائيلي، وعلى الرغم من الحروب المستمرة هناك، يبقى قطاع غزة واحداً من أبرز الأماكن الفلسطينية التي تزخر بالمعالم الأثرية والتاريخية التي تشهد على تراثه العريق وثقافته الغنية.
لكل مكان هناك قصة، تعود بنا إلى مئات السنين وإلى عصور قديمة، كانت فيها دائماً أراضي غزة شامخة عالية، تمكنت من كتابة تاريخ ما زال يُحكى إلى يومنا هذا، حتى وإن كانت معاناة أهالي القطاع سبباً في جعلها تختفي في طي النسيان.
في هذا المقال، نستعرض لكم أهم 6 معالم أثرية وتاريخية يشتهر بها قطاع غزة، والتي ما زالت قائمة رغم كل الظروف إلى غاية يومنا هذا.
المسجد العمري الكبير
مسجد العمري هو أقدم وأعرق مسجد في مدينة غزة، تم تشييده سنة 406م، وقد كان عبارة عن كنيسة بيزنطية، أنشأها أسقف غزة برفيريوس على نفقة الملكة أفذوكسيا.
وبعد الفتح الإسلامي لغزة، في القرن السابع الميلادي، تم تحويل هذه الكنيسة إلى مسجد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتمت تسميته بالعمري نسبة إليه.
تبلغ مساحة المسجد العمري الكبير 4100 متر مربع، فيما وصلت مساحة فنائه إلى 1190 متراً مربعاً، وقد بني وسط مدينة غزة القديمة، بالقرب من السوق القديم.
أضيف إليه محراب ومنبر، واتخذ موضع الناقوس منارة، ثم فتح الباب الشمالي المعروف بباب التينة والنافذتان الشماليتان، وكذلك الباب القبلي.
يعكس المسجد جمال المعمار القديم الذي كانت تمتاز به مدينة غزة، والذي يعتمد على الرخام كمادة أساسية، وهي التي تم بها تزيين الأعمدة متينة البناء.
تم توسيع مسجد العمري الكبير من طرف الناصر محمد في العهد العثماني، إلا أنه تعرض لخراب كبير خلال الحرب العالمية الأولى، فقد سقطت مئذنته، وهدم القسم الأعظم منه.
تم تجديد المسجد سنة 1926 من طرف المجلس الإسلامي الأعلى، وقد أصبح أفضل من شكله السابق، حتى في الخدمات التي يوفرها، من بينها مكتبة تحتوي على مخطوطات تاريخية ونادرة، أقدمها يعود لسنة 920 هجرية.
قلعة برقوق
تقع قلعة برقوق، التي تسمى كذلك خان الأمير يونس، وسط مدينة خانيونس الواقعة جنوب قطاع غزة، وقد تم بناؤها سنة 1387م، على يد الأمير يونس بن عبد الله النوروزي، بتكليف من السلطان المملوكي الظاهر برقوق.
كان الهدف الرئيسي من بناء هذه القلعة هو خدمة القوافل التجارية على امتداد الطريق الواصل بين بلاد الشام ومصر، إضافة إلى كونها حصانة للمدينة، حيث بنيت أبراجها بارتفاع شاهق.
تربط قلعة برقوق كلاً من مدن القاهرة ودمشق وقطاع غزة، إذ إن الحدود بينها وبين مصر لا تتعدى 20 كيلومتراً فقط.
شيدت القلعة بشكل هندسي مربع، وتوجد بكل زاوية نقطة بناء أساسية على شكل أبراج ضخمة دائرية الشكل، بنيت على قاعدة حجرية.
تتكون من طابقين، الأول يضم عدة مخازن كانت لحفظ البضائع، ومجموعة إسطبلات مخصصة لمبيت الدواب. أما الطابق الثاني فكان يحتوي على غرف متعددة تستخدم لراحة ساكني القلعة.
كما تتوفر القلعة على مسجد يقع يسار البوابة الرئيسية، يتكون بدوره من طابقين، يضم الطابق الأول بيت الصلاة الذي يتوسطه منبر من الرخام، مزود ببعض النقوش القديمة التي تعود لعصر المماليك، وأمام بيت الصلاة توجد قبة صغيرة من الزجاج الملون.
يوجد بالقرب من المسجد ديوان الاجتماعات الذي كان يستعمله أهل السلطة لمناقشة أمور البلاد، إضافة إلى غرف صغيرة أخرى، ترتفع إلى ما بعد نهاية سور القلعة، والتي بها نوافذ وهمية، للحماية من الهجمات.
تعرضت القلعة بدورها لخراب كبير خلال الحرب العالمية الأولى، لكنها بقيت شامخة إلى يومنا هذا، شاهدةً على عظمة الحضارة المملوكية، حتى بعد كل ما يعيشه قطاع غزة من عمليات قصف متكررة من طرف الاحتلال الاسرائيلي.
تل العجول
عند الحديث عن أقدم المواقع الأثرية في جنوب مدينة غزة، فإن الحديث يكون عن تل العجول، الذي بني سنة 2200 قبل الميلاد.
يقع هذا التل على الضفة الشمالية لوادي غزة، وهناك حيث كان موقع المدينة القديم، فقد كان امتداداً لميناء كبير في العصر الحديدي المبكر خلال سنوات 1200-1500 قبل الميلاد.
وكانت تتم عبره الكثير من العلاقات التجارية الكبرى بين مصر وسوريا وجزر البحر الأبيض المتوسط، كما أن هذا المكان الذي تعاقبت عليه الكثير من الحضارات، وكان ميداناً للقتال بين عدة إمبراطوريات من بينها الفرعونية والآشورية والفارسية واليونانية والرومانية والصليبية، جعلت منه مخزناً لعدة قطع تاريخية مهمة، تم اكتشافها ابتداء من سنة 1932.
تمت تسمية هذا التل بالعجول نسبة إوجود عجل كبير من الذهب في الأرض، وقد نسب هذا العجل إلى إله اليهود المذكور في القرآن الكريم، ويعتبر اليوم واحداً من أهم المواقع التي أسست لنشأة مدينة غزة، اليوم.
من بين أهم المعارك التي تمت في تل العجول، معركة الفراعنة بقيادة أحمس الأوّل، الفرعون الثالث للأسرة الثامنة عشرة في الحضارة الفرعونية.
كما مر عليه جيش الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص في معركة أجنادين سنة 635م، ضد الإمبراطورية البيزنطية.
واليوم، ولأن هذا المكان أصبح عبارة عن منطقة سكنية، لم يتمكن علماء الآثار من التنقيب عن القطع الأثرية المتبقية تحت الأرض، والتي تعتبر ذات قيمة كبيرة، إذ يرجح أنه من الممكن إيجاد مدينة أخرى تحت مدينة غزة الحالية، في حال حفر الأرض الموجودة عند تل العجول.
دير القديس هيلاريون في تل أم عامر
تل أم عامر عبارة عن موقع دير القديس هيلاريون، وهو الأول الذي بُني في فلسطين، تم بناؤه على بعد 15كم جنوب غربي غزة، وعلى بعد 3كم غرب مدينة النصيرات.
وحسب التنقيبات الاثرية التي تمت في تل أم عامر، تم إيجاد أكبر الأديرة التي لم يُعثر على مثلها في فلسطين من حيث المساحة والتصميم.
وحسب المصادر التاريخية، فإن القديس هيلاريون كان في طريقه إلى الإسكندرية، لكنه التقى القديس أنطوني، المؤسس الحقيقي للرهبنة في صحراء مصر، وتتلمذ على يديه، وقرر العودة إلى موطنه، وتأسيس دير خاص به في مكان منعزل فوق تل مرتفع مطل على مصر وفلسطين، وذلك عام 329م.
مع حلول سنة 362م، تقلد الإمبراطور جوليان المرتد العرش الروماني، وقد حكم بلاد الشام وضمنها فلسطين، ثم أمر بتدمير الدير، ونفي هيلاريون إلى قبرص، حيث توفي هناك سنة 371م.
كان الدير متكوناً من عدة أقسام مختلفة، محاطة بسور خارجي مصنوع من الحجر، إضافة إلى مجموعة من القاعات والغرف والممرات بلغ عددها 245 غرفة، بنيت عبر فترات زمنية مختلفة، بدءاً من منتصف القرن الرابع الميلادي حتى القرن الثامن الميلادي.
إضافة إلى المنطقة الخدماتية المتمثلة على شكل غرف رجال الدين المقيمين في الدير، ذات أرضيات مزينة بالفسيفساء ذات دلالة على أهمية صاحب كل غرفة، ويفصل تلك الغرف عن الجزء المعماري الثاني شارع طويل به درج، خاص بدخول وخروج الرهبان للكنيسة.
أما الجزء المعماري الثاني فهو يمثل الكنيسة، وقد خطط نظامها المعماري على الطراز البازيليكي المكون من ثلاثة أروقة أوسعها الرواق الأوسط، ويفصل بين كل رواق مجموعة من الأعمدة الرخامية كورنثية الطراز.
والجزء المعماري الثالث يمكن الوصول إليه عن طريق درج يؤدي إلى مبنى تحت الأرض على شكل صليب، تظهر فيه الأعمدة الرخامية المكونة للدير، والتي تهاوت من البناء الأعلى نتيجة الهزات الأرضية وعوامل الزمن.
اليوم تم اكتشاف كثير من الآثار التي تعود لهذا الدير، من بينها بقايا تابوت القديس هيلاريون الذي دفن هناك، بعد أن تم نقله من قبرص من طرف أحد طلابه.
وبعض القطع الرخامية القديمة، ثم قطع فخار وأدوات تسخين الماء الخاصة بالحمامات، ومجموعة من المقابر الفردية البيزنطية.
مسجد ابن عثمان
تم بناء مسجد ابن عثمان الأثري نهاية القرن الثامن الهجري، شرق مدينة غزة، وهو ثاني أكبر المساجد في المدينة بعد المسجد العمري الكبير، فقد تمكن من الحفاظ على رونقه وشكله رغم مرور السنين.
أشرف على بناء هذا المسجد عدّة سلاطين كُتبت أسماؤهم على جدران المسجد، أبرزهم شهاب الدين أحمد بن عثمان الذي سمي المسجد على اسمه، وذلك لأن كان مواظباً على إصلاحه، إضافة إلى أنه كان من بين الأشخاص الصالحين الذين عرفوا خلال العصر المملوكي.
للمسجد بوابتان غربيتان تُفتحان على ساحة كبيرة تتسع لأكثر من خمسمئة شخص، وبهذه الساحة مجموعة من الأروقة التي تلف بها الأقواس المملوكية والجدران السميكة، ما عدا الناحية الشرقية التي بني بها مكان الصلاة، ترتفع فيه قبة مميزة الشكل.
في شكله الحالي، تجد النباتات قد نمت بين فواصل الجدران دون قصد، ما زاد من جماله، ورونقه أمام الزوار، خصوصاً أنه ما زال قائماً إلى غاية يومنا هذا، رغم مرور عدة قرون على بنائه.
أجمل ما يميز هذا المسجد هو أنه عبارة عن تجسيد للمعمار الإسلامي القديم، من خلال طريقة النقوش وكتابة الأسماء بالحروف العربية على الجدران.
وقد شهد المسجد عدة ترميمات، بسبب تعرض أجزاء منه للتدمير في حروب سابقة، آخر هذه الترميمات تلك التي شهدها المكان المخصص للوضوء قبل 20 عاماً، أما قاعة الصلاة فقد رممت قبل 10 سنوات.